الاحتكار والرّيع التكنولوجي وانتفاضة الجنوب العالمي - الواقع العملي
في الجزء الأول من هذا المقال، توقّفنا عند البنية النظرية للإمبراطورية الرقمية: كيف تحوّل «الريع التكنولوجي» إلى أداةٍ رئيسية لاستخراج الفائض من الجنوب العالمي، وكيف تُعيد الملكية الفكرية والمنصّات الرقمية والأمولة إنتاج منطق الإمبريالية في ثوبٍ تقني جديد. استعرضنا هناك مساهمات عددٍ من المفكّرين، أمثال: سمير أمين وديفيد هارفي ويانيس ڤاروفاكيس وجون بيلاّمي فوستر وريتشارد وولف، لفهم العلاقة بين المركز والأطراف في عصر البيانات والذكاء الاصطناعي. في هذا الجزء الثاني ننتقل من الخرائط النظرية إلى الوجوه العملية للإمبراطورية الرقمية: كيف تُترجَم تلك البنى إلى سياساتٍ ملموسة، وسلاسل توريد، وأشكال عملٍ واتفاقات، ومحاولاتٍ من الجنوب لكسر قبضة الشمال على التكنولوجيا والمعرفة.
الملكية الفكرية
لعلّ أوضحَ أدوات الإمبريالية التكنولوجية هو نظامُ الملكية الفكرية الذي يحكم البراءات وحقوق النشر والأسرار التجارية عالمياً. فمنذ دخول اتفاق «تريبس TRIPS» حيّز النفاذ عام 1995، أُكرهت معظمُ الدول على إنفاذ حمايةٍ قويّة للملكية الفكرية. وقد «سوّر» هذا عملياً مشاعاتِ المعرفة على نطاقٍ غير مسبوق. تجني الشركاتُ الغربية – وهي التي تمتلك نصيبَ الأسد من البراءات في الأدوية وتقنية المعلومات والزراعة وغيرها – تدفّقاً مستمراً من الإتاوات ورسوم التراخيص من الجنوب العالمي. والاختلال صارخ: فوفق تحليلٍ حديث لبيانات صندوق النقد الدولي، نحو 92% من مدفوعات تراخيص الملكية الفكرية في العالم تذهب إلى كياناتٍ في الشمال العالمي. أي إنّ الجنوب يدفع الريع للشمال لقاء استخدام التكنولوجيا في كلّ قطاعٍ متقدّم تقريباً، من البرمجيات وأشباه الموصلات إلى أدوية إنقاذ الحياة. وهذا تحويلٌ مباشرٌ للفائض، على شاكلة «ريع الابتكار» الذي يذهب إلى المالكين.
يمكن قراءة «تريبس» وما تلاه من اتفاقات «تريبس–بلس» كأدوات تسوير – إذْ مدّدت حقوقَ الاحتكار على المعرفة إلى مقياسٍ عالمي. وهذا ما يُمأسس ما يسميه ڤاروفاكيس «الريع السحابي»، ويسميه ياكوب ريغي «جزيةُ ريع المعلومات». فالبراءاتُ والأسرارُ التجارية تُحوّل أجزاء واسعة من الفائض العالمي المُنتَج من الطبقات العاملة إلى أرباحٍ تكنولوجيةٍ صافية لمالكي الاحتكار.
لدينا مثالٌ ملموس: الهاتفُ الذكي. التكنولوجيا الجوهرية فيه «جي. يي. اس، الشاشة اللمسية، الشبكات الخلوية» طُوّرت في مؤسساتٍ عامةٍ أو بحثٍ تعاوني، لكنها اليوم مُبرأة ومُرخّصة لمُصنّعين محددين. وعندما تُجمِّع شركة في بلد نامٍ هاتفاً، يذهب جزءٌ من الكلفة إلى «إتاواتٍ» لشركاتٍ في أمريكا أو اليابان أو أوروبا تمتلك البراءات. هكذا، حتى لو انتقل التصنيع إلى الجنوب، فإن القيمةَ الزائدة الأعلى تظلّ مملوكة في الشمال.
يُسجّل «مركز القارات الثلاث» أنّه رغم تنامي قدرات بلدانٍ كالصين والهند والبرازيل، فإنّ معظمها يستمرّ في دفع ريوعٍ كبيرة لشركات الشمال من أجل المكوّنات والمعرفة المفتاحية– من تكنولوجيا المعلومات والآلة الصناعية إلى التقنية الخضراء. فمثلاً: قد تنتج أفريقيا وآسيا عناصرَ أرضيةً نادرة وتُركّب ألواحاً شمسية، لكن البراءات الحاسمة لتصاميم الخلايا عالية الكفاءة بيد شركاتٍ غربية، ما يفرضُ على متبنّي الجنوب رسومَ تراخيص. لهذا يتمّ وصف النظام الراهن بـ«الرأسمالية الاحتكارية الفكرية». فقممُ الابتكار مُحتكَرة، وتَبعيةُ الجنوب مُقنّعةٌ بقانون الملكية الفكرية.
كانت ملحمةُ لقاحات «كوفيد-19» أكثر من كافية للدلالة: فبرغم مناشدة جنوب أفريقيا والهند في منظمة التجارة العالمية إعفاء «تريبس» للسماح بالإنتاج، أصرّت دولٌ غربية وشركاتُ دواء على صون الحصرية البرائية. فواجهت دولُ الجنوب تأخيراً وكُلفاً متضخّمة في الوصول إلى لقاحاتٍ شديدة الأهمية. ولمّا أتى بعضُ التخفيف كان بفعل ضغطٍ سياسي وترخيصٍ طوعي جزئي، بينما بقيت بنيةُ سلطة الريع على حالها.
هذه ريوعٌ إمبريالية صريحة – تُعيد صدى الماضي، حيث دفعت المستعمراتُ «رسوم الوطن» أو «الحقوق» للقوى المستعمِرة، ولكن الآن تحت راية حقوقٍ قانونية.
العمل الرقمي واستعمار البيانات
تعمل آليةٌ ثانية لاستخراج الفائض عبر العمل والبيانات في الاقتصاد الرقمي. فإذا كان المحورُ الأول «الملكية الفكرية» هو تقاضي الثمن على المعرفة، فإنّ هذا المحور يدور حول
استخراج القيمة من العمل بشكلٍ متوارٍ وبصيغٍ جديدة.
يتحدّث باحثون أكثر فأكثر عن «استعمار البيانات» أو «الاستعمار الرقمي»: أي أنّ البيانات الشخصية ووقت العمل
على الشبكة لمليارات البشر «بنسبةٍ غير متكافئة تثقل كاهل الجنوب العالمي» يُستخرج ويُحَوَّل إلى قيمةٍ لدى شركات الشمال العالمي. يشبه ذلك استعماراً قديماً كان يأخذ المواد الخام من الأطراف لإطعام الصناعة في المركز، والآن باتت البياناتُ الخام والزمنُ البشري الموردَين المُستحوَذين.
وجهٌ من هذا جيشُ «العمل الدقيق» ومراقبو المحتوى في البلدان النامية الذين يؤدّون مهامّ خفية تُسيّر الذكاء الاصطناعي والمنصّات. تمّت الإشارة مؤخراً إلى عمّالٍ من كينيا وأوغندا يضعون وسوماً للبيانات (صور، نصوص…) لتدريب نماذج شركاتٍ مثل: «غوغل» و«ميتا» و«أوبن-إه.آي». ويُقدّر البنكُ الدولي أنّ بين 150 و430 مليون شخصاً يعملون في هذا النوع من الأعمال حول العالم. هذا رقمٌ مذهل يُظهر كم من العمل البشري يسند أنظمةً «آلية».
غالباً ما يتمّ العمل عبر منصّات مثل: «أمازون ميكانيكال ترك» أو شركاتِ تعاقدات متخصّصة، بأجورٍ متدنّية– تصل إلى 1–2 دولار في الساعة – في مهامّ كوسم الصور، ونسخ الصوت، وترشيح المحتوى. إنهم «البروليتاريا الرقمية» الجديدة الذين يُقدّمون عملاً معرفياً منخفض الأجر لتعمل خوارزمياتُ وادي السيليكون. وكما اعتمدت مصانعُ القرن التاسع عشر على عمال نَسيجٍ زهيدي الثمن في الهند أو عبيدٍ في الأمريكيتين، تعتمد «مصانعُ الذكاء» اليوم على عملٍ معرفيٍّ رخيص في الفلبين والهند وكينيا ونيجيريا وفيتنام وغيرها.
وتصف شهاداتٌ كثيرة ظروفاً استغلالية: ساعاتٌ طويلة «حتى ١٢–٢٠ ساعة»، وضغطٌ وصدمة. وقد أظهر مسحٌ لعمّال البيانات في أفريقيا وأمريكا اللاتينية إنهاكاً بدنياً واضطراباتٍ نفسية «قلق، اكتئاب، اضطراب ما بعد الصدمة» ناجمةً عن طبيعة المهام وضغط العمل. مع ذلك، يتم توظيف متعاقدين ذوي حمايةٍ محدودة، وتفصلهم طبقاتُ تعهيد «شركاتٌ محلية تتعاقد مع الكيان الكبير» تمنح عمالقة التكنولوجيا إنكاراً ومسافة. من هنا دخل مصطلح «ورش العرق الرقمية Digital SweatShop» القاموس لوصف ظروفٍ يُسَلَّع العاملون فيها كما الآلات.
ماركسياً، ينتج هؤلاء فائضَ قيمةٍ يستحوذ عليه الشمال. فحين يزيل مُراقبُ محتوى فلبيني منشوراتٍ ضارة عن «فيسبوك»، يُنجز عملياً وظيفةً تُبقي المنصّة صالحةً وجالبة للربح – لكنّ القيمة التي يضيفها «منصّةٌ أنظفُ تجذب المستخدمين والمعلنين» تستحوذ عليها ملكية «فيسبوك». يُدفع للعامل ربما 2 دولار/ساعة، وهو كسرة صغيرة من القيمة التي تُسهم بها يدُه في إيراداتٍ بمليارات. والفجوة بين القيمة المنتَجة والأجر – أي فائض القيمة – هنا هائلة، يسمح بها ميزان الأجور اللا متكافئ عالمياً، والعمل الموارب.
يمكننا هنا الاستعانة بمصطلح كريستيان فوكس Christian Fuchs، وهو من أوائل من تحدّث عن أن المستخدمين يُنتجون قيمةً تُستخرج بلا أجر عبر نشاطهم اليومي على المنصّات، أو «التسييل الخارجي»
لتكاليف العمل: إذ تدفع الشركاتُ، بتعهيدها العمل للجنوب، أجراً تافهاً مقابل ما يدرّ عليها عائداً أكبر في أسواق متقدّمة. إنه شكلٌ جديد من «الاستغلال الفائق» على نطاقٍ عالمي.
وجهٌ آخر، هو العملُ غير المأجور للمستخدمين. ملياراتٌ يستخدمون «غوغل» و«يوتيوب» و«إنستغرام» ويُساهمون بالمحتوى والبيانات مجاناً. كما يقول فوكس، في «التواصل الاجتماعي» الرأسمالي «المستخدمون أيضاً منتجو محتوى»، ونشاطُهم يخلق «سلعة الجمهور» التي تبيعها المنصّات للمعلنين. فمراهقٌ في البرازيل ينشر فيديوهات، أو مشروعٌ صغير في نيجيريا يروّج بوساطة «فيسبوك»، كلاهما يزيد «التفاعل» و«تحليلات البيانات» التي تتحوّل إلى دخلٍ إعلاني لهذه الشركات.
تقليدياً، يبدو هذا عملاً خارج علاقة الأجر، لكنه أساسي للربح – توغّلٌ لرأس المال في مجالاتٍ من الحياة لم تكن مُسَلَّعة «التواصل، التفاعل الاجتماعي، حتى المشاعر». إنّ وقت الفراغ نفسه بات داخلاً في عملية تسليع رأس المال – ما يُسمّى «دورة عمل 24/7» للرأسمالية الرقمية، إذ ثمة دائماً في مكانٍ ما من ينتج «عادم بيانات» قابلاً للتسييل.
ويستمر هذا النوع من الاستعمار تبعاً لكون اقتصادات المركز تجني أرباحاً من أنشطة الأطراف. غدا التعهيدُ الرقمي إلى الجنوب «بالغَ المردودية» – صناعةً ناميةً على أساس «تحكيم الأجور». وتُشبه أرباح عمالقة التقنية وتركيزُ الابتكار في أقطابٍ قليلة مركزاً إمبراطورياً يستخرج القيمة من تخومٍ مترامية من العمل. وكما تباهت القوى الاستعمارية بأنّها «تُحضِّر» أو تفيد المستعمَرين، تدّعي قوى الاستعمار الرقمي أنّها تمنح البلدان الفقيرة فرصاً عبر العمل على المنصّات أو النفاذ إلى الإنترنت. لكن بشروط تبادل غير متكافئة، تُبقي عمالَ الجنوب في مواقعَ هشة منخفضة الأجر، مع فرصٍ محدودةٍ للصعود في السلسلة. فمثلاً، عاملُ وسم البيانات الأفريقي لا مسارَ مهنياً لديه غالباً ليصبح مهندسَ ذكاءٍ اصطناعي في «غوغل»، فالحواجز البنيوية «تعليم، موقع، تمييز» تتكفّل بذلك. إنهم تروسٌ غير مرئية.
تُبرز البياناتُ التجريبية هذه اللامساواة. فقد وجد مسحٌ أوردته «بروكينغز» أنّه لم تحرز أيٌّ من المنصّات الكبرى للعمل الرقمي درجةً تفوق «الحدّ الأدنى» في الأجر العادل وظروف العمل– أي إنّ الأجور منخفضة والظروف رديئة عبر الطيف.
كشفَت دراسةٌ أخرى أنّ مراقبي المحتوى في أفريقيا كانوا يتقاضون نحو 1٫50 دولاراً للساعة عبر متعهّدين، مع دعمٍ نفسيٍّ ضئيل رغم تعرّضهم لموادّ صادمة. وفي الأثناء، تُدرِّب هذه الجهودُ نماذجَ تُباع بالملايين أو تُنتِج منصّاتٍ تُحقّق المليارات. إنه تحكيمٌ عالميٌّ للأجر يُحاكي صناعة الملابس، لكن غالباً بلا تنظيمٍ لأنّ العملَ غيرُ رسمي ومُحتجبٌ خلف الشاشات.
تُصعّب اختلالُ القوى تحسينَ وضع عمال الجنوب. فالمنصّات كثيراً ما تعمل في منطقةٍ قانونية رمادية – هل عمّال «الجيغ» موظفون
أم متعاقدون؟ وتشريعاتُ العمل متأخرة. كما أنّ المسافةَ والعزلة «عاملٌ وحاسوبٌ في البيت» تُعيقان التنظيمَ النقابي.
مع ذلك ظهرت محاولات: كوّن عمالٌ «اتحادَ مراقبي المحتوى الأفارقة» وتحالفاتٍ دولية للمطالبة بشروطٍ أفضل. وفي 2023 أعلن واسمون كينيّون إضراباً وشكّلوا «اتحادَ عمال البيانات» بعد تسريحاتٍ من مقاولٍ فرعي لـ«أوبن-إه.آي»، ما يُظهر بدايات مقاومة. لكنها لا تزال وليدة نسبةً إلى حجم القوة العاملة.
يدخل تحت «استعمار البيانات» أيضاً الاستحواذُ على البيانات الشخصية على نطاقٍ واسع. فمع ازدياد استخدام الهواتف والإنترنت في البلدان النامية – غالباً عبر خدمات «غوغل» و«فيسبوك» – تجمع هذه الشركات كمّاً هائلاً من بيانات السلوك والشبكات الاجتماعية. لا يتم تعويض المستخدمين مالياً، وغالباً ما يجهلون كيف تُباع بياناتهم أو تُحلَّل. تُستخرج قيمةُ هذه البيانات «استهداف الإعلانات، وتحسين الذكاء الاصطناعي، والقرار الائتماني الرقمي…» من شركات الشمال، وهو شبيهٌ بكيف كان الاستعمار يأخذ موادّ خام (سكّر، قطن، معادن) مقابل قليلٍ يُدفع للمجتمعات المحلية، فيما تُضاف القيمة في مصانع أوروبا. اليومَ المادة الخام هي بيانات المستخدم – تُمتصّ من كلّ بلد. فحين انضمّ ملايين الهنود إلى «فيسبوك/واتساب»، ساعدوا عملياً «فيسبوك» على الهيمنة وتسييل القاعدة الهندية بالإعلانات، لكنّ القليل جداً عاد إلى المجتمع الهندي إلّا في أشكالٍ هامشية. يبدو «الاستنزاف» الاستعماري مجدّداً: مواردٌ غير ملموسة تتدفق خارجاً، وأرباحٌ تتراكم في مكانٍ آخر.
الكلفة البيئية للإمبريالية التكنولوجية
على الرغم من أنّ الإمبراطورية الرقمية تُصوّر نفسها بلا وزنٍ ونظيفة – غيومٌ وأكواد – فهي تقوم على تأسيسٍ مادي مُدمّرٍ للبيئة. فالأجهزةُ والبنى التحتية عالية التقنية تُصنع من معادنَ وبلاستيك وعناصرَ نادرة تُستخرج من الأرض، وتعمل بالكهرباء التي يأتي كثيرٌ منها من الوقود الأحفوري، وتُنتج نفاياتٍ «كالنفايات الإلكترونية والانبعاثات» تُلقى بنسبةٍ غير متكافئة في الجنوب. لذا فإن استخراج الفائض التكنولوجي له بعدٌ مادي–بيئي أيضاً: يوفّر الجنوبُ موادَّ خاماً وأحواضَ نفاياتٍ بكُلفٍ بشرية وبيئية باهظة، لتمكين اقتصاد الشمال الرقمي.
مثالٌ بارز: تعدينُ الكوبالت في جمهورية الكونغو الديمقراطية. فالكوبالت مُكوّنٌ أساسي لبطاريات الليثيوم–أيون في الهواتف والحواسيب والسيارات الكهربائية. تُنتج الكونغو وحدها نحو 70% من كوبالت العالم. وكثيرٌ من التعدين يجري في ظروفٍ مروّعة: عملُ أطفال، وحُفَرٌ غير آمنة، وتعرّضٌ لسُمّيات. يُباع الخام في سلاسل التوريد العالمية لينتهي في بطاريات شركات كـ«آبل» و«سامسونغ» و«تسلا». ينال عمّال الكونغو فُتاتاً– دولاراتٍ معدودة يومياً– فيما تُباع المنتجات النهائية بآلاف الدولارات. إنّه تجسيدٌ للتبادل اللامتكافئ: تُترك المجتمعاتُ المحلية مُدمّرة بيئياً «مياهٌ ملوثة، اعتلالاتٌ صحية، مناظرُ مخرَّبة» بينما الثروة تتدفّق إلى شركاتٍ متعددة الجنسية. وهو صدى لاستخراج المطاط أو النحاس إبّان الاستعمار البلجيكي – لكن تحت إمرة رأسمالية التقنية.
وبالمثل، يشهد «مثلثُ الليثيوم»: بوليفيا وتشيلي والأرجنتين، طفرةً بفعل الطلب على البطاريات. وقد حذّرت جماعاتٌ من السكّان الأصليين في الهضاب الأنديَّة من أنّ تعدين الليثيوم «الذي يستهلك مياهاً جمّة لتبخير المحاليل
الملحية» يستنزف المياه الجوفية، ويُتلف أنظمة السّبخات الهشّة. ومع ذلك تبقى الأرباحُ والتقنياتُ في قبضة شركاتٍ أجنبيةٍ أو قلّةٍ من النخب المحليّة، إذ يُصدَّر الليثيوم خاماً أو نصفَ مُعالج. وفي بوليفيا– صاحبة أكبر الاحتياطيات– نضالاتٌ لضمان تطويرٍ يعود بالنفع على البوليفيين، لا أن يكون ريعاً لرأس مالٍ أجنبي. إنّ الصراع مستمرّ، ويُظهر أنّ التحكّم بالموادّ الخام للتقنية قضيةٌ جيوسياسية – على شاكلة النفط في القرن العشرين.
قلّما يذكر مُروّجو الاقتصاد الرقمي أنّ كلّ هاتفٍ يحوي عشرات المعادن من أماكن كالكُونغو ورواندا أو الصين في ظروفٍ خطرة، أو أنّ كلّ «بحثٍ في غوغل» و«عرضٍ على نتفلكس» يسحب كهرباء تُنتَج غالباً بالفحم أو الغاز، مساهِمةً في تغيّر المناخ. إحصاءٌ حديثٌ يرسّخ الصورة: شكّلت مراكزُ البيانات قرابة 4% من استهلاك الكهرباء في أمريكا في 2024 ومن المُتوقّع أن يتضاعف الطلب بحلول 2030. عالمياً، تُقدَّر بصمةُ قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات بـ2–3 % من الانبعاثات وباتجاهٍ صاعد. ينال الشمالُ نصيبَ الأسد من خدمات البيانات – لكن الفحمَ الذي يحترق لإنتاج الكهرباء في الجنوب، أو مناطق مهمّشة في الشمال.
ثمّ طوفانُ «النفايات الإلكترونية». عندما يتخلّى مستهلكون في
أمريكا أو أوروبا عن هواتفٍ أو حواسيب، ينتهي كثيرٌ منها «أحياناً بطرقٍ غير قانونية» في بلدانٍ كغانا ونيجيريا وباكستان. في أماكن كـ«أغبوغبْلوشي» بغانا، وهو مكبٌّ ضخم للنفايات الإلكترونية، يحرق عمّالٌ فقراء «ومنهم أطفال» خردةً إلكترونية لاستخراج النحاس وغيره، مُعرّضين أنفسهم وبيئاتهم لأبخرةٍ وسموم «رصاص، زئبق، ديوكسينات». هذا ظلمٌ بيئيٌّ يقع في قلب الإمبريالية الرقمية: يتخلّص الشمالُ من كلف التلوث وينقله إلى الجنوب. يصير الجنوبُ «حوض» مُخلّفات أنماط استهلاك الشمال.
وبالمنظور ذاته، يجري «نزع الملكية» عبر التعدين ورمي النفايات والاستيلاء على الأراضي لمزارع خوادم أو مناجم عناصر نادرة. تُحوَّل أراضٍ كانت تعيل مجتمعاتٍ زراعية إلى شركات تعدين، وتُستنزف المياهُ النظيفة أو تُلوث بالحاجات الصناعية. كلّ ذلك لإدامة دورة إنتاجٍ تُفيد مراكز الإمبريالية. على سبيل المثال: معدن «كولتان» اللازم لمكثّفات الإلكترونيات، جرى تعدينُه في مناطق نزاع في الكونغو– وتسرّب مصطلح «كولتان الدم» على غرار «ألماس الدم»، بعدما ربطت تقارير تعدينَه بجماعاتٍ مسلّحة وصراعٍ إقليمي. هذه المدخلاتُ الخام تُسنِد بهدوء قدرتنا على امتلاك الهواتف والحواسيب، مُظهرةً مجدّداً المساهمة غير المرئية لأراضي وشعوب الجنوب في صناعات التقنية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1252
عروة درويش