تداعيات الهزيمة الاستراتيجية الغربية في أوكرانيا على تركيا والسعودية والعراق
عروة درويش عروة درويش

تداعيات الهزيمة الاستراتيجية الغربية في أوكرانيا على تركيا والسعودية والعراق

منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا عام 2022، تجاوزت تبعاتها حدود أوروبا. إذ إنّ «الهزيمة الاستراتيجية الغربية» باتت واضحة المعالم – بمعنى عجز الولايات المتحدة وأوروبا عن تحقيق أهدافهما المُعلنة ضد روسيا – سيكون لها صدى في جميع أنحاء العالم، وفي منطقة الشرق الأوسط أكثر من غيرها. فالقوى الإقليمية بدأت فعلاً بإعادة ضبط مواقفها الأمنية، وتحالفاتها الدبلوماسية، واستراتيجياتها الاقتصادية استجابةً للتحولات في ميزان القوى العالمي.

نحاول هنا تحليل التأثير المباشر للفشل الغربي في أوكرانيا على بلدان رئيسية في الشرق الأوسط مع التركيز على التداعيات العسكرية/الأمنية، وإعادة التموضع الدبلوماسي، والانكشافات الاقتصادية/الطاقوية، وذلك في علاقتها مع روسيا، وبالمحصلة مع التحالف الصيني والإيراني مع روسيا.

تركيا

أظهرت الحرب في أوكرانيا بوضوح موقع تركيا الجيوسياسي الفريد بين الناتو وشركائها في أوراسيا. فالهزيمة الغربية في أوكرانيا ستُعزّز قناعة أنقرة بـ«الاستقلال الاستراتيجي»، وتُكرّس دورها كقوة توازن إقليمية. خلال الصراع، نجحت تركيا في التعامل مع جميع الأطراف: دعمت أوكرانيا عسكرياً عبر بيعها الطائرات المسيّرة، لكنها حافظت على علاقاتها مع روسيا ورفضت الانضمام للعقوبات ووسّعت التعاون الدفاعي مع موسكو «مثل صفقة منظومة S400».

وفي حال تراجعت هيبة الغرب بعد أوكرانيا، فقد تُضاعف تركيا من هذا النهج. عسكرياً، ستسعى أنقرة لاستغلال أي تراجع في الحضور الأميركي/الأطلسي. وقد تسعى أيضاً إلى دور أمني أكبر في مناطق مثل جنوب القوقاز أو ليبيا، لملء الفراغات الناتجة عن تراجع التركيز الأميركي/الأوروبي. رغم أنّ هناك مخاوف لدى قسم من الأتراك، فإنّ التحولات الأمنية الإقليمية تصبّ إجمالاً في مصلحة تركيا: إذ تستمر في تحديث جيشها بمصادر متنوعة «بما في ذلك تصنيع مسيّرات محلّية وشراكات آسيوية محتملة»، وتُقدّم نفسها كوسيط لا غنى عنه بين الشرق والغرب.

كما تمتلك تركيا براعة ملحوظة في إعادة ضبط تحالفاتها، والهزيمة الغربية في أوكرانيا ستُشجّع أنقرة على تعميق هذا النهج المتعدّد. فقد تبنّت حكومة أردوغان سياسة خارجية متعددة الاتجاهات: حوار مع موسكو وطهران من جهة، واستثمار نفوذها داخل الناتو من جهة أخرى.

ومع تراجع النفوذ الأميركي/الأوروبي، تبدو تركيا مُهيّأة لتعزيز علاقاتها مع القوى الصاعدة. فقد أبدت اهتماماً متزايداً بالانضمام إلى تكتلات مثل «بريكس» ومنظمة شنغهاي للتعاون، ولو بصفة مراقب أو شريك. وطرح بعض المسؤولين فكرة انضمام تركيا لـ«بريكس» كاعتراف بالواقع العالمي المتعدد الأقطاب.

العلاقة مع روسيا والصين قد تصبح أكثر تعاوناً علانية. فتركيا، رغم رفضها لضمّ القرم وبيعها أسلحة لأوكرانيا، حافظت على علاقات «وظيفية» مع موسكو – شملت التجارة والطاقة والدبلوماسية الإقليمية. ويُتوقّع استمرار سياسة «التوازن الجيوسياسي» التركية، خاصة في ظل شعورها بتراجع الهيمنة الغربية. يتوقّع، على المدى المتوسط على الأقل، أن تستمر تركيا في تعزيز نهجها الدبلوماسي المستقل، هذا مع الاستمرار في معارضة الغرب «بشكل انتقائي» لتعزيز دورها وتعظيمه في مؤسسات الغرب.

وفي شرقٍ أوسطَ أقلّ خضوعاً للهيمنة الأميركية، ترى أنقرة فرصةً للعب دور الوسيط الأبرز، سواء في صراعات كأوكرانيا «حيث استضافت محادثات وصفقة الحبوب»، أو في هندسة منظومة أمنية جديدة. باختصار، ستواصل تركيا، لفترة ما، سياسة الموازنة الذكية: التقرّب من روسيا والصين عند الحاجة، مع الحفاظ على ما يكفي من التناغم مع الغرب لتجنّب العزلة – وهي رقصة معقّدة، تُصبح أسهل مع ضعف القبضة الغربية.

من الناحية الاقتصادية، فإنّ فشل الغرب في أوكرانيا سيُعزّز الاتجاهات التي استفادت منها تركيا مسبقاً. فقد تحوّلت أنقرة إلى قناة عبور اقتصادية حيوية بفعل العقوبات ومسارات التجارة بين الشرق والغرب. منذ عام 2022 ازدهرت التجارة الروسية-التركية، وأصبحت تركيا ملاذاً لرؤوس الأموال والبضائع الروسية الخاضعة للعقوبات.

وتعهّد أردوغان بمضاعفة التبادل التجاري مع موسكو، ليبلغ 100 مليار دولار، رغم انزعاج الغرب. ومع ضعف العقوبات الغربية «بسبب الانقسام أو تعب التنفيذ»، ستُوسّع تركيا تجارتها مع روسيا في مجالات الطاقة والزراعة والتكنولوجيا، ما يُكرّس دورها كـ«بوابة اقتصادية» لروسيا إلى العالم.

الطاقة عنصر محوري هنا، فتركيا تعتمد على الغاز الروسي، وموسكو تبني أول محطة نووية تركية، لكنها تسعى أيضاً لتكون مركزاً لنقل الغاز من بحر قزوين والشرق الأوسط إلى أوروبا. وإذا تراجع الغرب، قد تزداد حاجة أوروبا لمسارات بديلة تمر عبر تركيا، ما يُعزّز نفوذ أنقرة.

كما أنّ أسعار النفط والغاز المرتفعة بسبب الحرب عزّزت قوة تركيا الإقليمية: رغم كونها مستورداً للطاقة، فاوضت أنقرة موسكو للحصول على خصومات وتأجيل دفعات، كما حصل في 2022 لتخفيف الضغط على اقتصادها.

من جهة أخرى، تزايد استخدام تركيا للمقايضات باليوان الصيني، واستقبلت استثمارات خليجية لدعم اقتصادها، ضمن تحوّل ناجم عن تشككها بالدعم الغربي. ومع تراجع اليد الغربية، قد يتسارع تعاظم النفوذ الاقتصادي الصيني في تركيا – إذ تموّل بكين مشاريع بنى تحتية تركية، وقد تُدمج أنقرة بعمق أكبر في «الحزام والطريق». في الوقت ذاته، ستُواصل تركيا التعاون مع روسيا في نقل الطاقة، مثل توسيع خط «ترك ستريم»، حيث تُعتبر تركيا شريكاً حاسماً لموسكو لتجاوز القيود الغربية.

باختصار، فإنّ استراتيجية تركيا الاقتصادية تقوم على تحويل الغموض الجيوسياسي إلى مكاسب: الاستفادة من موقعها كوسيط بين الغرب المعاقِب وروسيا المعاقَبة. وإذا فشل الغرب في أوكرانيا، فإنّ هذا الدور التركي سيزدهر أكثر، ويُشجّع على مزيد من الاستقلال المالي عن المؤسسات الغربية.

السعودية

تُعيد المملكة السعودية تقييم علاقاتها الأمنية، ومن شأن فشل غربي مُتصوّر في أوكرانيا أن يُسرّع توجه الرياض نحو تنويع استراتيجياتها الدفاعية. ورغم استمرار اعتماد المملكة على الدعم الدفاعي الأميركي، إلا أنّ الشكوك في موثوقية واشنطن تزايدت في السنوات الأخيرة. فالهزيمة الغربية في أوكرانيا – بما تُجسّده من تراجع للهالة الأميركية – تُعزّز القناعة السعودية بأنّ عليها إدارة أمنها الإقليمي بنفسها واستكشاف شراكات جديدة.

وقد أظهرت السعودية بالفعل استعدادها لمخالفة واشنطن عندما تتضارب المصالح: قادت خفضاً لإنتاج النفط ضمن إطار «أوبك+» بالتنسيق مع روسيا، رغم الضغوط الأميركية لعزل موسكو. ويعكس ذلك مستوى من التناغم الاستراتيجي، حيث يتفق البلدان على إدارة أسواق النفط بما يخدم تمويل دفاعاتهما، بصرف النظر عن رغبات الغرب.

وفي سياق ما بعد أوكرانيا، يُتوقّع أن تُوسّع السعودية تعاونها الدفاعي مع قوى غير غربية. وقد حصل ذلك سابقاً: فالمملكة اشترت صواريخ بالستية من الصين، ووردت تقارير عن بحثها شراء منظومات S400 الروسية. وإذا تراجعت القدرة الأميركية على الردع أو العقاب، فقد تذهب الرياض نحو شراء أسلحة متقدمة من روسيا أو الصين، لتُكمل ترسانتها الغربية.

كما قد تشهد المنطقة تعاوناً عسكرياً أو استخباراتياً جديداً مع روسيا أو الصين أو حتى إيران، في ظل تراجع الثقة بمظلة الحماية الأميركية. فعلى سبيل المثال، التقارب السعودي-الإيراني المفاجئ، الذي رعته الصين في آذار 2023، خفّف منسوب التوترات واعتُبر مؤشراً على أنّ دول الخليج باتت تُعوّل على الدبلوماسية الإقليمية لا على التدخل الأميركي.

وبما أنّ الحرب في أوكرانيا مستمرّة في إثبات عدم فاعلية دعم الولايات المتحدة، فقد تستنتج الأنظمة الخليجية بأنّ عليها حلّ نزاعاتها بعيداً عن الرهان على تدخلات واشنطن. والنتيجة المتوقعة: أمن خليجي أكثر انسجاماً مع تعددية الأقطاب، حيث تبقى السعودية من الناحية الشكلية حليفاً لواشنطن، لكنها تُنسّق أمنياً مع الصين «كشريك استراتيجي شامل»، بل وحتى مع روسيا وإيران، لضمان مصالحها.

دبلوماسياً، تتجه السعودية نحو انفتاح غير مسبوق على قوى غير غربية، وهو توجّه سيزداد عمقاً مع استمرار تراجع النفوذ الغربي. إذ إنّ نهج الرياض الاستقلالي في السياسة الخارجية أصبح جلياً في موقفها المحايد من حرب أوكرانيا وتنامي علاقاتها مع الصين وروسيا.

ويرى مراقبون إقليميون أن الشركاء العرب لم يروا فائدة في «مواجهة موسكو»، بل رأوا في الولايات المتحدة شريكاً متقلباً يفتقر للثبات. ومع اقتراب انهيار السياسة الغربية تجاه أوكرانيا، فإنّ هذه القناعة ستترسّخ. ومن المرجّح أن تُكثّف السعودية انخراطها مع القوى الصاعدة: فقد انضمت إلى منظمة شنغهاي كشريك حوار، وأعلنت الانضمام رسمياً إلى «بريكس» قبل أن تعلّق لاحقاً عملية الانضمام لأنّها «لا تزال تدرس الأمر».

وقد كانت وساطة الصين بين السعودية وإيران نقطة تحوّل رمزية؛ فقد اعتُبرت مؤشِّراً على «تراجع النفوذ الأميركي» في الشرق الأوسط، وتقدّم واقع تعددية الأقطاب. أما على مستوى التحالفات، فتعمد السعودية إلى تقوية مجلس التعاون الخليجي، وتُوقّع مشاريع بنى تحتية واتصالات مع الصين، وتُنسّق إنتاج النفط مع روسيا. حتى الوجود السعودي في ملفات تثير حفيظة واشنطن بات أكبر، مثل العمل الدبلوماسي الحثيث من أجل الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتنشيط حل الدولتين.

1237_h_26

ويُمكن وصف هذه المقاربة بأنها «توجّه شرقي» سعودي، لا يعني بالضرورة القطيعة مع أميركا – فالاعتماد المتبادل في مجالات الأمن والاقتصاد ما زال كبيراً – لكنّه يعني أنّ الرياض، في حال فشل الغرب في أوكرانيا، ستكون أكثر جرأة في موازنة تحالفاتها: علاقات ودية مع واشنطن، لكنها تُراهن على بكين كمستثمر أول وميزان جيو-استراتيجي، وعلى موسكو كشريك نفطي ومزوّد سلاح. والرسالة الدبلوماسية واضحة: لم تعد السعودية مستعدة لوضع كل بيضها في السلة الغربية، بل ترى العالم من منظور مصلحي متعدّد الأقطاب.

اقتصادياً، استفادت السعودية من تداعيات حرب أوكرانيا، وسيُطيل فشل الغرب أمد هذه المكاسب، ويُعيد تشكيل مسارات الطاقة العالمية بما يخدم الرياض. فقد أدّت الحرب إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز وتحوّلات في العرض، ما وضع السعودية «أكبر مصدّر للنفط» في موقع حاسم.

ورغم ضغوط الغرب لعزل روسيا اقتصادياً، اختارت الرياض تنسيق إنتاج النفط معها ضمن «أوبك+». بل إنّ هذا التعاون النشط بين موسكو والرياض ساهم في إضعاف العقوبات الغربية عبر إبقاء الأسعار مرتفعة، ما منح روسيا مداخيل إضافية لتمويل حربها.

فالسياسة النفطية للمملكة، القائمة على تعظيم العائدات وحماية وحدة «أوبك+»، لن تتغير، خاصة وأنّها تتقاطع مع مصالح روسيا. وقد ساهمت أسعار الطاقة المرتفعة في تعزيز مالية الدولة، مما مكّنها من تمويل مشاريع «رؤية 2030»، وتقليل الاعتماد الفوري على الاستثمارات الغربية.

في الوقت نفسه، فإنّ تحوّل أوروبا عن الطاقة الروسية زاد الطلب الأوروبي على نفط وغاز الخليج، ما منح دول الخليج حصة سوقية أوسع ونفوذاً أكبر. فعلى سبيل المثال، أبرمت السعودية ودول مثل قطر اتفاقيات طويلة الأمد لتصدير الغاز إلى أوروبا، ما جعلها بدائل مفضّلة عن روسيا، وأعاد تشكيل الروابط الاقتصادية الخليجية مع الغرب على أسس أكثر توازناً.

بعيداً عن النفط، تُكثّف السعودية ارتباطها الاقتصادي مع الصين. فبكّين هي الزبون الأكبر للنفط السعودي، وهناك أحاديث عن تسعير بعض صادرات النفط باليوان، ما قد يُقوّض هيمنة الدولار. كما وُقّعت اتفاقيات ضخمة بين الطرفين في مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية، وتُعتبر المملكة محوراً أساسياً في «الحزام والطريق» «مثل مشاركة شركات صينية في مدينة (نيوم) وشبكات الجيل الخامس».

كما استثمرت الصناديق السيادية السعودية بهدوء في أصول طاقة روسية، واستمر التبادل التجاري (حبوب، معادن، تكنولوجيا دفاعية) رغم العقوبات. وبهذا، نشأ محور سعودي-روسي في أسواق الطاقة يُضعف قدرة الغرب على فرض شروطه. داخلياً، قد يُعزّز إدراك تراجع الغرب تصميم المملكة على تطوير صناعاتها المحلية (مثل الدفاع والطاقة النووية)، إذ تُعتبر الاعتمادية على الواردات الغربية نقطة ضعف.

العراق

في العراق، سيتجلّى أثر فشل الغرب في أوكرانيا عبر تعاظم نفوذ إيران وروسيا على حساب الوجود الأميركي. إذ يقع العراق في صميم التنافس الشرقي-الأمريكي، ويعيش وضعاً أمنياً هشاً تتخلله قوات أميركية محدودة، إلى جانب ميليشيات قوية موالية لإيران.

أي إخفاق أمريكي عالمي، كما في أوكرانيا، من شأنه أن يُعزّز الأصوات العراقية المُطالِبة بـانسحاب أميركي كامل. وقد بلغ هذا الضغط ذروته بعد اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني في بغداد عام 2020، وسيعود بزخم أقوى إذا بدا أنّ واشنطن مُنهكة، مُشتتة أو فاقدة للمصداقية.

أما القوى العراقية المناهضة للغرب - ويندرج ضمنها قوات الحشد الشعبي الملحقة اسمياً بوزارة الدفاع – فقد أبدت دعمها السردي لموسكو في أوكرانيا، وكرّرت خطاباً عدائياً تجاه السياسات الأمريكية. أبدت بعض الفصائل تعاطفاً علنياً مع روسيا، وصوّرت الحرب كـ«صراع عادل ضد العدوان الغربي». مع الفشل الغربي القريب نسبياً في أوكرانيا، ستشعر هذه الميليشيات وتياراتها السياسية بـالتمكين السياسي والأيديولوجي. قد تضغط على الحكومة العراقية لتوقيع اتفاقيات أمنية جديدة مع روسيا أو توسيع التعاون الاستخباراتي مع إيران، مستندةً إلى سردية فشل الحلف الأطلسي وأمريكا في تحقيق الأمن.

يُذكر أنّ العراق وإيران وروسيا يتعاونون أصلاً عبر مركز استخبارات مشترك في بغداد لمكافحة «داعش»، وقد يتطوّر هذا التنسيق نحو ترتيبات دفاعية أعمق إذا خفتت اليد الأمريكية. كما أنّ مبيعات السلاح الروسي للعراق – التي تباطأت بفعل العقوبات والضغوط الغربية – قد تُستأنف بقوة: من دبابات T90 إلى أنظمة دفاع جوي، إذ لطالما أبدت بغداد رغبة في تنويع مصادر التسليح بعيداً عن الغرب.

مع تراجع الحذر من الرد الأميركي، قد تتجه الحكومة العراقية لتوسيع صفقاتها مع موسكو، وربما أيضاً مع الصين «خاصةً في مجال المسيّرات». باختصار، قد تنحرف البنية الأمنية العراقية نحو الاعتماد على الشركاء الشرقيين، فيما يتآكل رصيد الولايات المتحدة كداعم أمني موثوق. وهذا التحول قد يعيد تشكيل معادلة القوة داخلياً ويمنح اليد العليا لمحور إيران-روسيا في التخطيط الأمني العراقي.

يؤمن بعض الفاعلين السياسيين العراقيين بأنّ تعزيز الشراكة مع روسيا يعني تقوية إيران أيضاً، وهو ما يعتبرونه مكسباً. في الوقت ذاته، تُجمع غالبية الأطراف الوازنة في بغداد على تحسين علاقاتها مع دول الخليج وتركيا، لتلعب دور «الجسر» بين الأطراف، ما يعني في محصلته الوقوف في وجه المشاريع الأمريكية بتفتيت المنطقة. وقد ساهمت وساطة الصين في التقارب السعودي-الإيراني عام 2023 في تعزيز هذا المسار، إذ رحّبت بغداد بها باعتبارها تُخفف الضغط عنها. ويرى مراقبون أن هذه المصالحة قلّلت التوترات الطائفية والمنافسة بالوكالة داخل العراق.

اقتصادياً، واجه العراق، كغيره من دول الشرق الأوسط، ارتفاعاً حاداً في تكاليف استيراد القمح بعد اندلاع الحرب، مما أدى إلى تضخم أسعار السلع الأساسية وزيادة معدلات الفقر. وقد ساهم الحياد العراقي في ضمان استمرار استيراد القمح والأسمدة من روسيا وأوكرانيا، وهو قرار استراتيجي لضمان الأمن الغذائي. وإذا طال أمد النزاع بفعل فشل الغرب، ستستمر هذه الضغوط، مع ما تحمله من تبعات اجتماعية.

في المقابل، استفاد العراق مالياً من ارتفاع أسعار النفط، كعضو في «أوبك». فالعائدات النفطية تمثل معظم إيرادات الدولة، والحرب دعمت هذه الإيرادات عبر رفع الأسعار. وإذا تواصلت حالة عدم اليقين أو طال أمد الصراع، فمن المرجّح أن تبقى الأسعار مرتفعة – ما يفيد خزينة الدولة، حتى لو تضرّر المواطن من التضخم.
كما يُشارك العراق في إطار «أوبك+» إلى جانب روسيا والسعودية، ويُظهر التزاماً بالاتفاقيات، رغم الضغط الأمريكي لزيادة الإنتاج – ما يعكس أولويات بغداد في الحفاظ على شراكتها مع موسكو.

على المدى الأبعد، سيُصبح الدور الصيني في الاقتصاد العراقي أكثر مركزية. فالصين هي أكبر مشترٍ للنفط العراقي، ومستثمر رئيسي في مشاريع البنية التحتية (الموانئ، الكهرباء، تطوير الحقول النفطية). وفي ظل تردّد الغرب عن الاستثمار في بلد غير مستقر، تُصبح بكين الشريك الأبرز. وقد أُبرم اتفاق «النفط مقابل المشاريع» بين العراق والصين عام 2019 بقيمة 10 مليارات دولار، بهدف إعادة إعمار البنى التحتية مقابل ضمانات نفطية – وهو نموذج قد يتوسّع إذا تراجعت الضغوط الغربية.

وتشير تقارير إلى أنّ ضغوط واشنطن أخّرت تنفيذ بعض المشاريع الصينية؛ لكن إذا تراجع النفوذ الأميركي، فقد تُنفّذ هذه المشاريع دون عراقيل، مما يفتح الطريق أمام الصين لبناء سكك حديدية، وشبكات كهرباء، واتصالات في العراق.

أما إيران، فتبقى الشريك الأكثر تشابكاً اقتصادياً مع العراق: من واردات الكهرباء والغاز، إلى الديون الضخمة المستحقّة على بغداد. وإذا خفتت القيود الأميركية، قد يتمكن العراق من تسديد هذه الديون بسهولة، وربما دمج شبكته الكهربائية مع إيران لتحسين إمدادات الطاقة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1237