لماذا فشلت الهند في تكرار «المعجزة التصنيعية» الصينية؟
كتب زعيم حزب المؤتمر الوطني المعارض راهول غاندي على منصّات التواصل الاجتماعي قائلاً إنّ الهند لا تمارس «تصنيعاً» حقيقياً باسم «صُنع في الهند»، بل تكتفي بتجميع المواد الواردة، بحسب ما نشرت «تايمز أوف إنديا» بتاريخ 19 تموز الجاري. ومن هذا المنطلق، دعا غاندي الحكومة إلى الدّفع نحو «تغيير جذري من القاعدة»، وجعل الهند قوة صناعية حقيقية تستطيع منافسة الصين، بحسب تعبيره.
ترجمة: أوديت الحسين
لكن لماذا فشلت الهند في إنشاء قاعدة تصنيع عالمية قوية؟ ولماذا لم تستطع تكرار «المعجزة الصينية» في النمو السريع؟
التعليم
استثمرت الأنظمة الشيوعية خلال القرن العشرين بقوة في التعليم الأساسي. الصين لم تخرج عن هذه القاعدة. في عام 1950، كان متوسط سنوات التعليم في الهند سنة واحدة فقط، مقارنة بـ1.8 سنة في الصين، وذلك بعد عامٍ واحد فقط من تأسيس الحكم الشيوعي في الصين. بحلول عام 1980، ومع بداية مرحلة الإصلاح والانفتاح، كان متوسط سنوات التعليم في الصين قد ارتفع إلى 5.7 سنوات، بينما بلغ في الهند 2.5 سنة فقط. وحتى حين بدأت الهند إصلاحاتها في أوائل التسعينيات، لم تكن قد وصلت سوى إلى متوسط 3.6 سنة فقط.
لماذا هذا الفرق بالغ الأهمية؟ يشير هوانغ ياشينغ من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (في الولايات المتحدة الأمريكية) إلى أنّ قصة نمو الصين تتسم بطابع «من الأسفل إلى الأعلى». في الثمانينيات، وبفضل التمويل منخفض التكلفة وتحرير بيئة الأعمال، نشأت آلاف الشركات الصغيرة في الأرياف، وكونت تكتلات إنتاجية في مجالات محددة مثل مقابض الأبواب والمسامير، وساهمت في تشكيل سلاسل صناعية تنافسية. يعتقد هوانغ أنّ الهند لم تُقلِع بالطريقة نفسها لأنّ متوسط التعليم لدى سكانها – خصوصاً في الريف – كان أقلّ بكثير من الصين.
تتطلّب إدارة شركة صغيرة مهارات القراءة والحساب والمحاسبة الأساسية، وقد كان الصينيون أكثر قدرة على ذلك عند بدء انفتاح الاقتصاد. أمّا الهند، فقد بدأت بالاستثمار في التعليم فقط بعد أن بدأت ترى فجوة تعليمية تعيق فرص العمل الناتجة عن الإصلاحات.
لماذا لم تهتم الهند بالتعليم الشعبي في المراحل المبكرة؟ في كتابه الكلاسيكي «الطفل والدولة»، يرى البروفيسور مايرون وينر أنّ السبب يعود إلى النظام الطبقي والاقتصادي الذي أعاق تعليم الطبقات الدنيا. فالنخب ببساطة لم تكن مهتمة بمنح التعليم للطبقات الفقيرة أو الطبقات المنبوذة. فما الفائدة من تعليمهم –من وجهة نظر تلك النخب- إن كان ذلك سيزيد من وعيهم بحقوقهم ويقلّص من خضوعهم؟
المفارقة أنّ النظام «الديمقراطي الليبرالي» لم يدفع السياسيين لزيادة الإنفاق على التعليم الأساسي أو الرعاية الصحية. قد يكون السبب أنّ الطبقات الدنيا لا تملك الحقوق ولا الوعي الكافي للمطالبة بالخدمات، كما قال مؤسس الدستور الهندي أمبيدكار. أو ربما لأنّ الناس لا يدركون أهمية التعليم إلا بعد أن تتوفر وظائف تتطلب مهارات تعليمية. في كل الأحوال، يُرجّح أن يكون السبب مزيجاً من كل ما سبق.
اللامركزية الحكومية واستراتيجيات الدعم
العنصر الثاني المهم في التصنيع الصيني هو نظام المنافسة بين الحكومات المحلّية. رغم أنّ الصين لم تحصل على تقييمات متميزة في سهولة الأعمال بحسب مؤشرات البنك الدولي – حيث كانت في المرتبة 91 عام 2006، والمرتبة ذاتها في 2013 – فإنّها تمكنت من تحقيق قفزات تنموية بفضل منح الصلاحيات للمسؤولين المحليين. ففي حين كانت الأنظمة التقليدية ترى في الصين دولة مركزية بحتة، إلا أنّ السلطة فيما يخص النمو الاقتصادي كانت موزَّعة على مستويات محلّية عديدة.
يصف البروفيسور شيه تشانغتاي من جامعة شيكاغو كيف زار مدينة صينية عام 2013، ووجد فيها سبعة نواب لرئيس البلدية، كل منهم مسؤول عن نحو 30 شركة، يعالج مشاكلها ويشجّع على الاستثمار فيها.
أمّا في الهند، فقد ظلت الحكومة مركزيةً بشدّة، حيث وزعت الصلاحيات فقط على مستوى الولايات، دون أن يكون هناك تمثيل فعلي للسلطة أو الميزانيات في المدن والقرى. وحتى عندما تم تعديل الدستور لمنح المستوى الثالث من الحكم بعض الصلاحيات، لم تكن تلك الصلاحيات كبيرة بما فيه الكفاية.
بالتالي، رغم أنّ حكومات الولايات الهندية تتنافس اليوم لجذب الاستثمارات، إلّا أنّها مسؤولة أيضاً عن عدد هائل من السكان. ولا يملك وزراء الصناعة في تلك الولايات القوة نفسها التي يتمتع بها نواب العمد في الصين، كما أنّ مسؤولي الضرائب المعيَّنين من الحكومة المركزية يفتقرون إلى الحوافز لدفع عجلة النمو. لذلك، لم تنشأ في الهند البنية التنافسية نفسها بين الحكومات والشركات، التي تقيّد المحسوبية والفساد وتخلق زخماً للنمو كما حصل في الصين.
أسباب إضافية لفشل التصنيع
قبل التسعينيات، اتبعت الهند سياسة «البدائل المحلية» للصناعة، عبر فرض رسوم مرتفعة على الواردات، واحتكار السوق المحلّي. لكنّ السوق الداخلي لم يكن كبيراً بما يكفي لتشجيع الكفاءة، وعدم وجود المنافسة منع الشركات من الابتكار، خاصة مع نظام التراخيص الذي جعل دخول السوق أو التوسُّع فيه مرهوناً بموافقة الحكومة، وهو نظام بيروقراطي ومكلف.
بدأت الإصلاحات في أوائل التسعينيات، فتم تقليص الحماية الجمركية والانفتاح على المنافسة، مما عزّز من الكفاءة. على سبيل المثال، في صناعة السيارات، اختفت ثلاث شركات هندية كبرى بعد دخول شركات أجنبية، بينما نجحت شركة «ماروتي» في البقاء من خلال التعاون مع اليابان لإنتاج سيارات منافسة.
رغم ذلك، لم تستفد الهند بشكل كافٍ من سوق السلع المصنعة العالمي، وبقيت العديد من العقبات قائمة. كما أضافت الهند عقبات من عندها، مثل قوانين العمل التي تعرقل التوسع وتدفع الشركات للإبقاء على حجم صغير لتجنّب التكاليف القانونية المرتبطة بالتوظيف طويل الأمد. لذا، تفضل الشركات التوظيف المؤقت الذي لا يشجع على الاستثمار في تدريب الموظفين.
إضافة إلى ذلك، كانت اتفاقيات التجارة غير متسقة، مع فرض رسوم مرتفعة على المواد الأولية المستخدمة في الإنتاج، مما زاد التكاليف. على سبيل المثال، يُستخدم «البارا-تيرفثاليك أسيد PTA» في إنتاج الأقمشة الاصطناعية، ولكن عند انخفاض إنتاج شركتين محليّتين عام 2014، فرضت الهند قيوداً على استيراده، فارتفعت الأسعار وخسرت الهند القدرة التنافسية في صناعة النسيج. في المقابل، استفادت دول مثل بنغلادش وفيتنام وهولندا وألمانيا من الفرص التي أتاحها خروج الصين من بعض هذه الأسواق.
ورغم كل هذه العقبات، فقد نجحت الهند في بعض المجالات، مثل قطع غيار السيارات، والدراجات النارية منخفضة السعر، والأدوية الجَنيسة [وهي نسخة مكافئة للدواء الأصلي تُنتج بعد انتهاء مدة براءة اختراعه، باستخدام المادة الفعالة والجودة ذاتهما]. كما أنّ قدرات الهند في الابتكار الهندسي التدريجي ساعدتها على تثبيت أقدامها في هذه الصناعات.
رغم التحديات التي يواجهها قطاع التصنيع في الهند، إلّا أنّ هناك مؤشرات واعدة تشير إلى إمكانية سلوك طريق مختلف نحو الازدهار. فبدلاً من محاولة تكرار النموذج الصيني حرفياً، يمكن للهند أن تركز على مزاياها النسبية، وعلى رأسها المهارات الهندسية، والقدرة على الابتكار التدريجي، وقوة قطاع الخدمات، وخاصة تكنولوجيا المعلومات. كما أن تنمية البنية التحتية الرقمية، وتحسين جودة التعليم الأساسي، وتبسيط قوانين العمل، قد تمثل خطوات جوهرية في دعم الصناعات الناشئة وتعزيز فرص التوظيف.
إنّ المسار الذي ستسلكه الهند في العقود القادمة لن يكون نسخة عن التجربة الصينية، بل سيكون، بحكم الضرورة، تجربة هندية خاصة بها، تنبع من واقعها الاجتماعي والسياسي الفريد، وتستلهم منه فرصها في بناء نموذج نموّ مختلف... نموذج قد يكون بطيئاً، لكنه أكثر استدامة وشمولاً في النهاية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1236