الاتفاقية الإيرانية الروسية: عقبة أخرى في طريق الحروب الغربية
في السابع عشر من كانون الثاني، وقَّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الإيراني مسعود بيزشكیان اتفاقية استراتيجية تاريخية لمدة 20 عاماً، والتي علّقت عليها وكالة رويترز لاحقاً بأنها «من المحتمل أن تثير قلق الغرب».
بموجب هذه الاتفاقية، اتفقت الدولتان على تعزيز التعاون في مجالات الخدمات الأمنية، والتدريبات العسكرية، والعبور أو زيارات الموانئ، والتدريب المشترك للضباط. كما تعهَّدتا بعدم السماح باستخدام أراضيهما في أي عمل عسكري ضد الطرف الآخر أو تقديم أي دعم لمن يعتزم مهاجمة الطرف الآخر، بالإضافة إلى التعاون لمواجهة التهديدات العسكرية الخارجية.
في البداية، كانت هناك تكهنات بأن الاتفاقية سيتم إقرارها خلال قمة «بريكس» في روسيا في تشرين الأول 2024، لكن موسكو سارعت إلى نفي تلك الشائعات في ذلك الوقت. ويرى البعض بأنّ روسيا اختارت عمداً عدم توقيع الاتفاقية في تشرين الأول نظراً لمساعيها لجعل قمّة بريكس شاملة للجنوب العالمي، بحيث لا تختلط فيها الاتفاقات الثنائية في أذهان الحاضرين والمراقبين. من وجهة النظر هذه، فإن الطابع الثنائي للشراكة التجارية والأمنية كان من شأنه تقويض الأهداف الرئيسية للقمة.
ركزت هذه الأهداف بشكل محدد –والتي تعد أيضاً ركائز أساسية للشراكة التي تم توقيعها حديثاً– على دحض الادعاءات الغربية بعزل روسيا، وإظهار أن «بريكس» تواصل الحصول على الدعم، لا سيّما من منظور جيو-اقتصادي، وأن التكتل قادر على مواجهة العقوبات المفروضة من الغرب بوسائل متعددة غير مقتصرة على الاتفاقات الثنائية التي باتت شائعة في الأعوام الماضية، سواء مع الصين أو الهند أو البرازيل أو أفريقيا أو غيرها. تشمل هذه الوسائل تطوير أنظمة مدفوعات جديدة تسمح للدول بالتجارة بعملاتها الوطنية.
علاوة على ذلك، ترى وجهة النظر هذه بأنّ الرسالة التي تم الترويج لها بعناية حول وحدة «بريكس» كان من الممكن أن تتضرر إذا تم الإعلان عن الاتفاقية بشكل مفاجئ أمام حضور مهمين مثل تركيا، والسعودية، والإمارات، الذين قد تثير اتفاقاتٌ ثنائية مع طهران حساسيةً داخل مجتمعاتهم.
مع ذلك، فما حدث بعد أقل من شهرين من تغيير في المشهد السياسي في سورية عبر الإطاحة بالسلطة الحاكمة، عنى بالنسبة للكثير من المراقبين حاجة دول الإقليم -وعلى رأسها تركيا والسعودية وإيران- إلى تسريع التحركات السياسية، والتي اعتبر كثيرون أنّ الاتفاقية الاستراتيجية الشاملة بين موسكو وطهران هي إحدى تجلياتها. من جهة أخرى كان كثيرون يقولون بأنّ هذه الاتفاقية قادمة لا محالة، وأنّ الذي أخّرها هو عدم التوصّل السريع لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة. وبالطبع هناك الرأي القائل بأنّ التوقيت معدٌّ ليكون قُبَيل استلام الإدارة الأمريكية الجديدة، كنوعٍ من المانع لأيِّ تصرُّفٍ عدوانيٍّ أكبر تجاه إيران.
بالعودة إلى سورية، كانت سورية بوضوح موضوعاً رئيسياً لكل من بوتين وبيزشكيان. فعند مناقشة التطورات الأخيرة في سورية، شدَّدا على التزامهما «بالتوصل إلى تسوية شاملة في ذلك البلد تستند إلى احترام سيادته واستقلاله ووحدة أراضيه»، وفقاً لما ورد في البيان الرسمي للكرملين حول المحادثات.
علاوة على ذلك، فإنّ سورية مشمولة ضمن المنطقة الأوسع التي تحظى بأهمية كبيرة، كما هو موضَّح في نَصّ الاتفاقية. فعلى سبيل المثال، في المادة 12، اتفق الجانبان على تعزيز التعاون الأمني بين روسيا وإيران «في آسيا الوسطى، وجنوب القوقاز، والشرق الأوسط بهدف منع التدخل... وزعزعة الاستقرار من قبل أطراف ثالثة». ويتضمن ذلك التزاماً متبادلاً بتجاهل العقوبات الغربية المستقبلية المفروضة على البلدين.
وخلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب التوقيع، شدد بوتين على أن ضمان السلام والاستقرار في هذه المنطقة، التي يُشار إليها غالباً بـ«غرب آسيا»، «يخدم مصالح بلدينا». حيث لا تقتصر أهمية «غرب آسيا» على الجوانب الأمنية فحسب، بل تشمل أيضاً التجارة الإقليمية والتعاون الاقتصادي والتنمية.
وقال بوتين خلال تصريحاته عقب التوقيع: «هناك فرص واعدة... تُفتح أمامنا في إطار ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب». وأضاف أن «المحادثات جارية بشأن بناء خط سكة حديد رشت-آستارا، وأنّ تنفيذ هذا المشروع سيساعد في إنشاء سلسلة إمداد مرنة وسهلة من روسيا وبيلاروسيا إلى الموانئ الإيرانية في الخليج».
ويُظهر المزيد من تطوير هذه الفرص في سلاسل التوريد أنه لا يخدم فقط مصالح روسيا وإيران، بل يبعث أيضاً برسالة مهمة إلى الشريك الرئيسي: الصين، لدعم مبادرتها «الحزام والطريق». كما يبعث برسالة إلى تكتل «بريكس» وأعضائه المحتملين الذين يسعون إلى فرص أكبر للتجارة والتنمية الاقتصادية في المنطقة.
كما تضمن المؤتمر الصحفي المشترك إعلاناً عن أن الجانبين يقتربان من الانتهاء من اتفاق لتصدير الغاز الروسي إلى إيران بحجم 2 مليار متر مكعب سنوياً، مع احتمال زيادته إلى 55 مليار متر مكعب سنوياً. ومن المرجح أن البلدين يوليان أهمية كبيرة لتعزيز العلاقات في قطاع الطاقة في ظل تزايد التوترات مع الغرب ومخاطر فرض سياسات أكثر صرامة بشأن العقوبات الطاقية من قبل الإدارة الأميركية القادمة بقيادة ترامب.
ويعكس هذا المشروع أيضاً التزام روسيا بتطوير شراكات جديدة ومسارات بديلة للطاقة، وذلك بعد توقف أوكرانيا عن نقل الغاز الروسي. فقد توقفت إمدادات الغاز الروسي إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر أوكرانيا بعد انتهاء اتفاقية الخمس سنوات في كانون الأول، مما أنهى ترتيباً استمر لعقود.
تُعتبر روسيا وإيران الآن شريكين رئيسيين في مجالات التجارة والتمويل والاستثمار، حيث ينمو تعاونهما في هذه المجالات بشكل مطرد. وكما صرّح بوتين، فإنّ «التجارة الثنائية نمت بنسبة 15.5% خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2024».
وأضاف بوتين قائلاً: «لقد انتقلت بلداننا إلى استخدام العملات الوطنية بشكل شبه كامل في التسويات المتبادلة». وأوضح أن «الجهود تُبذل لإنشاء قنوات تفاعلية مستدامة للإقراض والتعاملات المصرفية، وتنسيق أنظمة الدفع الوطنية. ففي عام 2024، تمّ أكثر من 95% من التجارة الثنائية باستخدام الروبل الروسي والريـال الإيراني».
ونظراً لأن توقيع الاتفاقية جاء قبل ثلاثة أيام فقط من تنصيب الرئيس «ترامب»، فمن المحتمل جداً، كما قلنا آنفاً، أن يكون هذا التصريح بمثابة رسالة موجهة إليه مباشرة، خاصة أن ترامب هدَّد مؤخراً بفرض رسوم جمركية بنسبة 100 بالمئة على الدول التي تحاول تقويض هيمنة الدولار أو استخدام عملات أخرى في تعاملاتها التجارية الثنائية.
تأتي هذه الشراكة في وقت يقول فيه المراقبون بتراجع نفوذ طهران في المنطقة بسبب التطورات في سورية والشرق الأوسط، وأنّ روسيا أيضاً تعاني، ولو معنوياً، من ربطها بدعم السلطة السورية الساقطة. لا يوافق الجميع على أنّ روسيا قد فوجئت بما حدث، خاصة في ظلّ الطريقة السريعة التي سقطت فيها السلطة في سورية، لكنّ الإعلام الغربي عموماً يستمرّ بالقول بذلك، ويبدو أنّ هذا الرأي عابر للنخب الغربية والأمريكية. على سبيل المثال، رداً على سؤال حول سقوط الأسد، كتب ترامب في كانون الأول على منصة التواصل الاجتماعي «تروث سوشيال» قائلاً: «روسيا وإيران في حالة ضعف حالياً، الأولى بسبب أوكرانيا والاقتصاد المتعثر، والثانية بسبب (إسرائيل) ونجاحها العسكري».
لكن في الحقيقة، يجب علينا النظر أبعد من التطورات في الشرق الأوسط. فمنذ بداية الحرب في أوكرانيا، عملت موسكو بشكل مكثف على تعزيز علاقاتها مع طهران ودول أخرى تُعتبر معادية للولايات المتحدة لمواجهة محاولات إضعافها وتقليص نفوذها. على سبيل المثال، لديها بالفعل اتفاقيات استراتيجية مع «كوريا الشمالية» وحليفتها الوثيقة «بيلاروسيا»، فضلاً عن اتفاقية شراكة مع الصين. كما أنّ التطورات بعد عام 2015 في المنطقة، جعلت دولاً كانت محسوبة منذ زمن كحلفاء للغرب والأمريكيين، تعدّل كثيراً من موقعها خوفاً على مكتسباتها، وربّما تركيا -وهي لاعب صاعد ورئيسي في المنطقة- هي في رأس القائمة.
يبقى السؤال الأهم هو مدى قدرة هذه الاتفاقية، أو الاتفاقيات الاستراتيجية الأخرى المماثلة، كوسيلة ردع ضد أي صراع مستقبلي، سواء كان عسكرياً أو اقتصادياً، مع الولايات المتحدة أو حلفائها.
سيكون من الضروري مراقبة التطوّرات اللاحقة، لكنّ إشعال الحروب سيصبح أكثر صعوبة مع تزايد الانقسامات داخل الغرب بشأن مستقبل مؤسساته الأمنية والاقتصادية، وكذلك وطأة تراجع التوافق بين واشنطن وبروكسل. بهذا المعنى، فمن المرجّح أن تؤدي هذه الاتفاقيات إلى تقويض جهود مؤيِّدي الحرب والدافعين إليها، سواء في الولايات المتحدة أو في أوروبا.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1211