الصراع على «التمويل السَّحَابي» والذُّعر الأمريكي من الصين
التقت صحيفة «المُراقِب» الصينية مع البروفيسور الاقتصادي اليوناني، وزير المالية السابق، يانيس فاروفاكيس، الذي شرح ضمن لقاء طويل رأيه في أنّ التركيز على الصراع الجيوسياسي، وقدرات الصين على الإنتاج الفائق في مواجهة الولايات المتحدة، لا يمكنه أن يشرح وحده سبب هلع النخب الأمريكية من تطوّر الصين. يرى فاروفاكيس بأنّ جوهر المسألة هو في قدرة الصين الواقعية للتخلّي عن الدولار، وامتلاكها البنى التحتية اللازمة لذلك. يدفع هذا نُخَب الأمريكيّين لفعل أيّ شيء، هم والدُّمى الذين وضعوهم على رأس الاتحاد الأوروبي، لتدمير الصين اقتصادياً، ومادياً لو أتيحت الفرصة.
ترجمة: قاسيون
التحليلات التقليديّة التي تتناول خوفَ الولايات المتحدة من اتّساع النفوذ الصيني بسبب تقدمها الصناعي والتكنولوجي، تَغفل عن نقطة مهمة للغاية؛ عندما سمحت الولايات المتحدة للصين بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية في بداية القرن، ألم تكن تدرك أنّ الصين ستنمو وتزدهر؟ هل كان الأمريكيّون بهذا الغباء؟ وعندما وضعت شركة آبل خطوط إنتاج هواتف الآيفون في الصين، ألم يتوقّعوا أنّ الصين ستنتج يوماً ما هواتفها الخاصّة بها، وبالتالي ستنافسهم في النهاية؟
لا أعتقد أنّ الأمريكيين أغبياء. أعتقد أنّهم كانوا يعلمون تماماً ما يحدث، لكنهم لم يكترثوا. فكلما كبرت التجارة الصينية، زادَ تراكم الدولار لدى الرأسماليين الصينيّين. وما الذي يمكن أن يفعلوه بكل هذه الأموال؟ سيستخدمونها في الولايات المتحدة لشراء سندات الخزينة الأمريكية، أو شراء أسهم في الشركات التي يسمح لهم الأمريكيّون بالاستثمار فيها، أو شراء عقارات أو غيرها من الأصول في الولايات المتحدة.
إنّ الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تمكّنت، بسبب هيمنة الدولار كعملة عالمية، من استخدام عجزها التجاري لخلق طلب على صادرات دول أخرى. (يمكنكم معرفة تفاصيل أكثر عن هذه النقطة وتطوّرها التاريخي في المقال المنشور في قاسيون بعنوان: تناقض اقتصادي يحكم خيارات ترامب وكلّ دروب أمريكا تقودها للهاوية، للكاتب نفسه). لهذا السبب لم تهتم أمريكا. وبالتالي، يغفل التحليل التقليدي هذا العامل المهمّ.
لماذا أذكُرُ ذلك؟ لفهم الحرب الباردة الجديدة. عليك أنْ تنظر إلى خوف المسؤولين الأمريكيّين من فقدان الولايات المتحدة احتكارها للعملة الدولية ولأنظمة الدفع العالمية. في نظرهم، هذا الكابوس ينبع من الصين، لأنّها الدولة الوحيدة في العالم التي يمكنها بناء نظام بديل لنظام الدفع الدولي القائم. حتى الآن، لم تَخْطُ الصين هذه الخطوة بشكلٍ كامل، ولم تُلحِق أذىً بالغاً بالدولار الأمريكي. لكن الولايات المتحدة تتوقع حدوث ذلك، فتستعدّ ليس لحرب اقتصادية فقط مع الصين، مثلما فعل ترامب وبايدن، بل ربما لحربٍ نووية حقيقية.
أهمّية «رأس المال السّحابي»
لماذا تُعتَبر الصين تهديداً؟ جميعنا نعلم. في الصين، يمكنك استخدام تطبيق «وي تشات باي» للدفع. في أوروبا وأمريكا، نستخدم أنظمة مثل «غوغل باي» و«آبل باي» وغيرها من أنظمة الدفع الرقمي. نحن نعلم أنّ القوة التي تسيطر على تراكم رأس المال انتقلت من امتلاك المحركات البخارية والسكك الحديدية إلى امتلاك الخوارزميات. أسمّي هذا «رأس المال السَّحَابي». من يملك رأس المال السَّحَابي، يملك السلطة. البلدان التي تمتلك هذا النوع من رأس المال هي الصين والولايات المتحدة.
لذلك، في مجال رأس المال، وخاصة هذا النوع الجديد منه، بدأت الصين تنافس الولايات المتحدة. لكن هذه ليس كل القصة، البنوك الصينية والشركات التكنولوجيّة الكبرى، مثل «وي تشات»، أصبحت قوى مهيمنة. يمكنك استخدام «وي تشات» للدفع دون الحاجة لدفع عمولة. حتى لو استخدمت «وي تشات باي» في أوروبا أو أمريكا، لن تُقتطع نسبة مئوية. على النقيض، إذا استخدمتَ «غوغل باي» أو «آبل باي»، فالبنوك تأخذ نسبة من كلّ معاملة.
في الولايات المتحدة، هناك نزاع بين بنوك وول ستريت والشركات التكنولوجية الكبرى «رأس المال السَّحَابي». الطرفان رفضا التعاون مع بعضهما بعضاً. لماذا؟ لأنّ المصرفيّين لا يريدون مشاركة الأرباح مع الشركات التكنولوجيّة الكبرى في وادي السيليكون. هذا التعارض في المصالح بين بنوك وول ستريت ورأس المال السَّحَابي ساهم بأضرار إضافية لنظام الدَّفع بالدولار.
في الصين، الأمر مختلف تماماً. بفضل وجود تنظيم حكومي مركزيّ -ووجود الحزب الشيوعي- تمّ رسم حدود واضحة بين البنوك وشركاتٍ مثل «تينسنت» و«علي بابا». خلق هذا تكاملاً وتنسيقاً بين رأس المال السَّحَابيّ والقطاع المالي التقليدي في الصين. أسمّي هذا النظام «التمويل السحابي Cloud Finance».
كما تتمتع الصين بميزة أخرى كبيرة هي اليوان الرقمي، العملة الرقمية التي يُصدرها بنك الشعب الصيني. هذه العملة تمثّل أداة قوية للغاية، تمكّن كلَّ شخص من فتح حساب مِحفَظَة رقميّة تابعة للبنك المركزي، يمكن القول إنّ هذا يلغي القيود التي تفرضها البنوك التقليدية. في هذه الحالة، ستحتاج البنوك إلى بذل الجهود لإقناعك بإيداع أموالك لديها لأنّك لم تعد بحاجة إليها بالضرورة. يمكنك ببساطة استخدام العملة الرقمية الصادرة عن البنك المركزي لإجراء المعاملات، ممّا يرفع كفاءة «التمويل السَّحابي» ويخلق منافسة قوية للبنوك، وفي الوقت نفسه يقدم بديلاً فعلياً للدولار.
«أوتوستراد» ماليّ صينيّ فائق الكفاءة
لنأخذ المثال الآتي: مصنع ألماني ينتج عَنفات الطّاقة الريحيّة الضخمة، ويَستخدم في صناعتها المعادن كالألمنيوم والصلب القادمة من الصين. يتم شحن المواد الخام إلى ألمانيا لتصنيع العَنفَات، ثمّ إعادة شحن المنتَج النهائي إلى الصين لاستخدامه في بناء السفن.
إذا كنتَ مُصنِّعاً ألمانياً لهذه العَنَفات، فقبل ظهور اليوان الرقمي، كان عليك المرور بسلسلة طويلة من العمليات المالية؛ فعليك لطلب شراء المعادن من الصين إبلاغُ مصرفك الألماني ليبلغ بدوره البنك المركزي الألماني، ثم البنك المركزي الأوروبي، ثمّ البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وأخيراً بنك الشعب الصيني والبنك الصيني الخاص الذي يتعامل مع المورد. عند كل خطوة في هذه العملية، هناك رسوم تُفرَض، وتنتقل السيطرة على المعاملات إلى الوسطاء في هذه السلسلة، وغالباً ما يكون ذلك في أيدي الأمريكيين.
لكن الآن، مع وجود اليوان الرقمي، يمكن للمصنع الألماني تنزيل التطبيق المرتبط بالبنك المركزي الصيني. وهذا التطبيق ليس حكراً على المواطنين الصينيّين، بل متاح لأيّ مستخدم. بضغطة زر واحدة يمكن للمصنع الألماني دفع الأموال، وبضغطة أخرى يمكن للمورّد الصيني استقبالها، وكل هذا يتمّ باليوان الرقمي بدلاً من الدولار. وإذا كانت التجارة بين ألمانيا والصين، سواء لشراء السيارات الكهربائية الصينية أو ألواح الطاقة الشمسية، فلماذا يجب أن يكون الدولار وسيطاً؟
هذا يمثل تهديداً واضحاً للهيمنة الأمريكية. أعتقد أنّ هذا هو السبب الذي يدفع الولايات المتحدة إلى شنّ حرب باردة جديدة ضد الصين. الأمريكيون يدركون جيداً أنّ هيمنتهم لا تأتي من جُودة منتجاتهم. في الواقع، الولايات المتحدة لا تصنع الكثير من الأشياء. لديهم تقنيات متقدّمة وشركات مثل «نفيديا»، ولكن حتى الشرائح الدقيقة (لأنصاف النواقل) لا تُصنع في أمريكا بل في تايوان.
يعلم الأمريكيون أن صناعة الصين ضِعف حجم صناعتهم، وأنَّ لا نصيبَ لهم في الهيمنة الاقتصادية هنا. الهيمنة الأمريكية تعتمد بشكل كبير على الدولار كعملة احتياطية عالمية. لكن الآن، يرون الصين تبني «طريقاً سريعاً» مالياً فائق الكفاءة. ورغم أنّ استخدام هذا الطريق ما زال محدوداً، إلّا أنّ حرب أوكرانيا دفعت دولاً كروسيا والسعودية إلى الاهتمام بهذا النظام.
ولنأخذ مثالاً ثانياً:تخيّل أنك أمير سعودي يبيع النفط ويجمع الكثير من الدولارات النفطية. ثم ترى كيف جمّدت أمريكا أصولاً روسية بقيمة 450 مليار دولار. قد تتساءل: ماذا لو انقلبت أمريكا ضدي يوماً ما؟ في هذه الحالة، قد تقرّر عدم وضع كل أموالك في النظام الأمريكي، وقد تبدأ بتحويل جزء منها إلى النظام الصيني، كنوع من التأمين، أليس كذلك؟
الأمريكيون يدركون ذلك، ويدركون أن نظامهم المالي القديم والبطيء يواجه الآن منافسة من نظام صينيّ أكثر كفاءة وحداثة. ولإيقاف هذا التحول إلى النظام الصيني، قد تكون الولايات المتحدة مستعدة حتى لشن حرب نووية. لأنهم يعرفون أنّ فقدان السيطرة على هذه المنظومة المالية يعني نهاية الهيمنة الأمريكية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1203