كيف أطلقت المقاومة الفلسطينية مرحلة الانهيار النهائي لـ«إسرائيل»؟
رينر شيا رينر شيا

كيف أطلقت المقاومة الفلسطينية مرحلة الانهيار النهائي لـ«إسرائيل»؟

يتحدّث الكاتب الأمريكي رينر شيا، الذي يُعرِّف عن نفسه بأنّه ماركسيّ-لينينيّ، عن أنّ المقاومة الفلسطينية قد نجحت بالفعل في هزيمة «إسرائيل» وأدخلتْها في مرحلة انهيارِها النّهائي، بعد أقل من مائة عام على تأسيسها كجيبٍ استعماري.

ترجمة: قاسيون

ويشرح شيّا ذلك بالقول: لكي تنجح الجهود الإباديّة الصهيونية في محو الفلسطينيين، يتطلب الأمر اقتلاعَهم من أراضيهم، ممّا يجعل من السهل تحييدهم. يسعى الكيان النازي «الإسرائيلي» إلى وضع الفلسطينيّين في الموقف نفسِه الذي يعيشه السكّان الأصليّون في أمريكا الشمالية أو أستراليا: أي أنْ يصبح شعب فلسطين الأصليّ قليلَ العدد، ويعاني من نقص الحلفاء والقوة المادّية، بحيث لا يُشكِّل تهديداً وجودياً لـ«الدولة» التي تضطهدهم.
في النهاية، جميع الدول والكيانات التي تستعبد سكانها الأصليين سيتمّ الإطاحة بها. قد تختلف هذه العملية من مكانٍ لآخر، لكنها ستحدث. وربما تكون النقطة الأكثر ضعفاً في هذا النظام الاستعماري، من نواحٍ عديدة بما فيها الاقتصاديّة، هي الأراضي التي يواصل فيها الشعب الفلسطيني الأصلي المقاومة. لا توجد وسيلة لكسر إرادتهم.
إذا نجَح «الإسرائيليون» في إجبار 700,000 من سكان غزة على الانتقال من الشمال إلى الجنوب، فلن يتمكن معظم هؤلاء من البقاء على قيد الحياة. يُعَدّ الشمال المنطقة التي تحتوي على جزء كبير من النباتات في قطاع غزة، في حين أنّ المنطقة الواقعة أسفل خان يونس أكثر جفافاً بالمقارنة معها. وبالتالي، فإنّ النضال للحفاظ على هذه الأرض لا يتعلّق فقط بتجنّب الاكتظاظ في الجنوب، بل بتجنّب الاكتظاظ في منطقة تعاني أصلاً من نقصٍ حادّ في الموارد. للفلسطينيين كلُّ الحق في البقاء في منازلهم، وكل الحق في العيش، وهو ما على المحكّ الآن. بالنسبة لمئات الآلاف منهم في هذه اللحظة، الخيار هو إمّا القتال أو الموت في معسكر اعتقال في الصحراء، وهذا يزيد من دافعهم للمقاومة.
هذا العامل هو أحد الأسباب الأساسية وراء نموّ عضوية حركة حماس منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، إذْ إنّ الطريق الوحيد للمضي قدماً هو المقاومة. ولهذا السبب، فإنّ محاولات تصوير المقاومين كأشرار لا يمكن أن تنجح: عندما يرى الناس الوضع، يسهل عليهم فهم أيّ الجانبَين على حقّ. وبينما يبدأ الكيان الصهيوني محاولاته لضمّ الضفة الغربية رسمياً، وهي الخطوة التي ستتضمن مشروع تطهير عرقيّ مماثل، سيتم أيضاً الاعتراف بمن يقاومون هناك كأبطال. خارج فقاعة الدعاية الصهيونية المليئة بالأكاذيب والكراهية، لا يمكن لأحد أن ينظر إلى هذه التطورات ويعتقد أنّ «إسرائيل» ضحيّة بريئة. وهذا سببٌ رئيسي في أن «إسرائيل» قد ماتت بالفعل.
إذا تمكنت «إسرائيل» من طرد الفلسطينيين الباقين بالكامل، وحقّقت ما يُسمى بـ«الحلّ النهائي» الذي ينقل المشروع الاستعماري إلى مرحلة جديدة، فقد يمنح ذلك الصهيونية استقراراً أكبر. سيكون بإمكان الكيان حينها أنْ يزعم للعالَم أنّه «حقق السلام». لكن هذا كلّه مجرّد خيال. مثل هذا السيناريو، حيث يحقّق المستعمرون نصراً تاماً، هو الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها للفصيل السياسي المؤيد لـ«إسرائيل الكبرى» تحقيق هدفه بالتوسع الهائل، والطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك ستكون عبر عدد لا يُصدّق من الحروب، التي لا يستطيع الكيان الفوز بها، لأنّ الشعوب الأصلية التي يسعى لإبادتها في موقع استراتيجي قوي للغاية.
«إسرائيل» غير قادرة حتى على قمع قوى المقاومة المسلَّحة داخل غزة والضفة الغربية، إذْ تواجه فشلاً تلو الآخر في قتال هؤلاء المقاومين، وهو ما أدّى إلى تقلّصٍ في شبه إمبراطوريتها الديمغرافية. غادر أكثر من نصف مليون «إسرائيلي» فلسطين ولم يعودوا خلال الأشهر الستة الأولى بعد السابع من أكتوبر، في حين فكَّر ربع «الإسرائيليين» الباقين في الرحيل منذ ذلك الحين. ويزداد احتمال أنْ يتّخذوا القرار بالفرار. ومع تفاقم الأوضاع الاقتصادية والأمنية وحتى مشاكل الطاقة داخل «إسرائيل»، سيضمن ذلك انهيار المشروع الصهيوني القائم على التفوق العرقي، إذ يعتمد المشروع الصهيوني بالكامل على إبقاء الفلسطينيين أقلّية صغيرة داخل أراضي «الدولة اليهودية». وأمامَ احتمال فقدان هذا الامتياز الحاسم، يشعر الكيان أنّ خيارَه الوحيد هو توسيع الصراعات، ممّا يضمن أنّ جميع جوانب أزمته ستزداد سوءاً.
بسبب النجاح البالغ الذي حقّقته الإبادات الجماعية الاستعمارية في أمريكا الشمالية، تمكنت الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة وكندا من تأجيل زوالها. لو كانت معارضتهم الأصلية قوية مثل تلك التي تواجهها «إسرائيل»، لكانت هذه الدول قد هُزِمَت منذ زمن بعيد. بدلاً من ذلك، تمكّنت من أنْ تصبح قوى أساسية في نظام رأس المال المالي العالمي الاحتكاري. وعندما ينهي الفلسطينيون الصهيونيّة، سيَفقد المحتكِرون موقعاً استراتيجياً لا غنى عنه، مما سيعجّل بانهيار نظامهم.
لم تتمكّن الدول الاستعماريّة الاستيطانيّة من البقاء إلّا عبر التطور إلى المرحلة التالية من تطوّرها الإمبرياليّ، لتصبح أدواتٍ لنظامٍ ماليّ دوليّ يتجاوز الدول الفردية. البنية الاقتصادية الاستعمارية ما زالت موجودة، لكنها الآن في شكلٍ مختلف عمّا كانت عليه في البداية. ففي مرحلة احتكار رأس المال، تصدّر الدول «المركزية» رأس المال بدلاً من السلع. كما كان الحال خلال الحقبة الأولى من الاستعمار، لا تزال الدول «الطرفية» تتعرّض للاستغلال، ولكن يحدث الآن تحوّل في ميزان القوى، وسيكون تحرير فلسطين أساسياً في إكمال هذه العملية.
من المنظور التاريخي، أخذاً بالاعتبار أنّ «إسرائيل» هي جيبٌ استعماريّ على النمط القديم، فقد تمكّن الفلسطينيّون من ضمان انتصارهم لأنّ الحركة الصهيونية تأخّرت عن ركب الآباء الاستعماريين القدامى في مشروعها في فلسطين. كتبَ المؤرخ اليهودي المناهض للصهيونية، توني جودت، عن ذلك مستنتجاً بأنّ البشرية في الوقت الذي بدأ فيه المشروع الصهيوني في فلسطين، كانت قد وصلت إلى مرحلة من التطور ترفض شروره، فقال إنّ الصهيونية كانت محبطة في طموحاتها:
«حلم إقامة وطن قومي يهودي في وسط الإمبراطورية العثمانية المنهارة كان يجب أن ينتظر انسحاب الإمبراطورية البريطانية: وهي عملية استغرقت ثلاثة عقود أخرى وحرباً عالمية ثانية. وهكذا، لم تُقَم دولة قومية يهودية في فلسطين العثمانية السابقة إلّا في عام 1948. لكنّ مؤسِّسي [الدولة] اليهودية تأثروا بالمفاهيم والفئات ذاتها التي تبنّاها معاصروهم في وارسو، أو أوديسا، أو بوخارست في أواخر القرن التاسع عشر، وليس من المستغرب أن تعريف «إسرائيل» الإثنيّ-الديني لنفسها، وتمييزها ضد «الأجانب» الداخليين، يشبه بشكل كبير ممارسات رومانيا بعد انهيار الإمبراطورية النمساوية-المجرية. المشكلة في «إسرائيل»، باختصار، ليست كما يشير البعض، في أنّها جيبٌ استعماري أوروبي في العالم العربي فقط، بل في أنّها وصلت متأخِّرة. لقد استوردت مشروعاً انفصاليّاً من أواخر القرن التاسع عشر إلى عالَم تجاوزَ هذا النوع من المشاريع، عالَم قائم على حقوق الأفراد، الحدود المفتوحة، والقانون الدولي. فكرة «الدولة اليهودية» - دولة يتمتع فيها اليهود والديانة اليهودية بامتيازات حصريّة يُستَثنى منها المواطنون غير اليهود إلى الأبد - جذورها تعود إلى زمن ومكان آخرين. «إسرائيل»، باختصار، هي حالة متأخرة تاريخياً وغير ملائمة للعصر الحديث».
إنّ أقلّ من مائة عام مضت منذ 1948، أدّت بالقوى المناهضة للاستعمار إلى دخول «إسرائيل» في مرحلة انهيار نهائي. لقد انتصر الفلسطينيون بالفعل، مما يمنح جميع الشعوب التي أخضعها الاستعمار القدرة على تحقيق انتصارها الخاص.
إضافة إلى ذلك يعتقد راينر شيّا بأنّ «نجاح الشعب الروسي في مكافحة الإمبريالية في أوكرانيا ساعد في إلهام عملية طوفان الأقصى، ممّا أدى إلى إطلاق مرحلة جديدة بالكامل في الكفاح، وستُلهِم عملية طوفان الأقصى بدورها المزيد لاتخاذ خطوات تغيِّرُ مسار التاريخ».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1203