تناقض اقتصادي يحكم خيارات ترامب وكلّ دروب أمريكا تقودها للهاوية
يانيس فاروفاكيس يانيس فاروفاكيس

تناقض اقتصادي يحكم خيارات ترامب وكلّ دروب أمريكا تقودها للهاوية

«ما الذي أدّى لسقوط الولايات المتحدة إلى هذا الحضيض؟». هذا السؤال أهمّ من التساؤل عن فوز هذا الرئيس الأمريكي أو ذاك، سواء ترامب أم غيره. يقدّم يانيس فاروفاكيس إجابته على سؤال السقوط الأمريكي في المقال الآتي الذي كتبه لموقع «المراقب» الصيني، ونعرضه هنا (بتصرّف). وفاروفاكيس يساريّ وناشط سياسي واقتصادي يوناني معروف، شغل منصب وزير المالية اليوناني سابقاً.

تعريب: قاسيون

في العصر الذهبي للرأسمالية الأمريكية، لمدة 20 عاماً بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة دولةً تدير فائضاً تجارياً، وتبيع لبقية العالم أكثر ممّا تشتريه من دول أخرى. ولتحقيق هذه الغاية، وبينما كانت أوروبا واليابان في حالة خراب بعد الحرب العالمية الثانية، قامت حكومة الولايات المتحدة بأمرين: حددت سعر الصرف بين الدولار وعملات حلفائها، وأغرقت حلفاءها بالدولارات «من خلال المساعدات والقروض» حتى يتمكّن الأجانب «الصديقون» من شراء السلع الأمريكية. وبفضل هاتين الخطوتين الجريئتين، نجحت الولايات المتحدة في تحويل أوروبا واليابان إلى الدَّولَرة.
وقد نجح هذا النظام المعروف أيضاً بنظام «بريتون وودز» لأن الفائض التجاري للولايات المتحدة كان يعني أنّ الدولارات التي ترسلها واشنطن إلى أوروبا واليابان تعود إلى الولايات المتحدة في مقابل كلّ سيّارة، وثلّاجة، وطائرة ركّاب...إلخ يستوردها العملاء الأوروبيون واليابانيون من الولايات المتحدة. وكانت هذه عملية تداول عالمية تتوافق تماماً مع مصالح رأس المال العالمي.

«وفِيْ البَدْء كَانَ الإِنْتَاج»

ولكن في ذروة حرب فيتنام، غيّر تطوران كلَّ شيء: أولاً، تجاوزت إنتاجية المصانع الألمانية واليابانية إنتاجية المصانع الأمريكية، ممّا تسبّب في سقوط الميزان التجاري الأمريكي في العجز - مما يعني أن الولايات المتحدة استوردت أكثر ممّا صدرت. ثانياً، انتهى الأمر بكمية كبيرة من الدولارات التي أنفقها البنتاغون على حرب فيتنام والحفاظ على القواعد العسكرية في أوروبا في البنوك الأوروبية واليابانية. وبالتالي، استمرت الدولارات في التدفق خارج الولايات المتحدة إلى أحواض الدولار في أوروبا واليابان.
تدفقت هذه الدولارات في نهاية المطاف إلى البنوك المركزية الأجنبية. لفترة من الوقت، استخدمت هذه البنوك المركزية سعر الصرف الثابت بين عملاتها والدولار لتبادل الدولارات بعملاتها الخاصة أو شراء الذهب بسعر الصرف الثابت البالغ 35 دولاراً للأونصة الذي وعدت به حكومة الولايات المتحدة. ولكن في آب 1971، دمّر الرئيس نيكسون هذه الآلية، وأنهى سعر الصرف الثابت. وفجأة، ارتفعت كثيراً قيمة المارك الألماني والين الياباني والعديد من العملات الأجنبية، مما أضرّ بصناعات التصدير في هذه البلدان. [فعندما ترتفع قيمة عملة بلد ما بشكل كبير، تصبح منتجاتها أغلى بالنسبة للمشترين الأجانب، فيحتاجون لدفع مزيدٍ من عملاتهم المحلية للحصول على الكمية نفسها من منتجات الدولة ذات العملة القوية، ما يجعل منتجاتِها أقل جاذبية ويخفّض الطلب عليها مقارنة بمنتجات دولٍ ذات عملات أضعف، فتواجِه شركاتها المصدِّرة صعوبة في بيع منتجاتها في الأسواق العالمية، ممّا قد يخفّض الأرباح ويقلّل الإنتاج ويزيد البطالة – توضيح قاسيون].
وجدت البنوك المركزية الأجنبية نفسها في مأزق، حيث لم تكن تعرف ماذا تفعل بالكمية الكبيرة من الدولارات الموجودة في خزائنها. فإذا استخدم البنك المركزي الألماني هذه الدولارات لشراء المارك الألماني، على سبيل المثال، فإن الطلب على العملة الألمانية سوف يزداد أكثر، مما يتسبب في ارتفاع قيمة المارك الألماني، الأمر الذي يلحق المزيد من الضرر بالصادرات الألمانية. لذلك، اختارت هذه البنوك المركزية الأجنبية شراء سندات الخزانة الأمريكية بدولاراتها.

الإمبراطورية التي قَوِيَتْ بضعف إنتاجها!

وهكذا بدأ الأمر: العجز التجاري الأمريكي [الناتج عن الانخفاض النسبي لإنتاجها وتصنيعها وصادراتها مقارنة بقوى صناعية أخرى] أدّى لتمويل الحكومة الأمريكية بشكل غير مباشر، ووضع الرأسماليين في ألمانيا واليابان وغيرها في حالة حاجة فورية للصادرات الأمريكية. بالمقابل، استخدم الرأسماليون الأجانب دولاراتهم لشراء سندات الحكومة الأمريكية، والعقارات في نيويورك وكاليفورنيا وميامي، والأسهم في عدد صغير من الشركات التي سمحت لهم واشنطن بشرائها.
في ثمانينيات القرن العشرين، أدت التخفيضات الضريبية التي أقرها رونالد ريغان إلى زيادة العجز المالي الحكومي الأمريكي، ومع أنه «عجز» لكنه زاد قوّة الدولة الأمريكية لأنّه حفَّز الطلب العالمي، وشحَّمَ عجلات التمويل، فأعاد الرأسماليون الأجانب الدولارات إلى الولايات المتحدة لشراء المزيد من السندات والعقارات الأمريكية. وارتفعت أسعار الأصول في مختلف أنحاء الولايات المتحدة بشكل حاد.

صُعود «مَصنَع العالَم»

ولكن في حين كان ريغان يتلذذ بمجد الطفرة الاقتصادية، كانت الولايات المتحدة تتحول إلى مكان مُكلف لممارسة الأعمال التجارية. وفي ذلك الوقت، بدأت الصين في الإصلاح والانفتاح، فدخلت ضمن آلية تداول الدولار العالمية الغريبة هذه – وهي الآلية التي يحركها العجز التجاري والحكومي الأمريكي. استفادت التنمية السريعة في الصين من هذه الآلية وكذلك ساهمت في تسريع نموها؛ لأن الدولارات الأمريكية التي تجنيها الشركات الصينية من الصادرات الصافية تعود أيضاً إلى الولايات المتحدة لدعم ميزانية الحكومة الأمريكية، وبنوك وول ستريت، ومطوري العقارات على الساحلين الشرقي والغربي للولايات المتحدة.
أدركت الشركات الأمريكية الكبرى فجأة الارتفاع المتزايد لتكاليف الأنشطة التجارية في الولايات المتحدة، فلماذا لا ينقلون خط الإنتاج إلى الصين لإيجاد الأراضي والعمالة الأرخص بكثير؟ فبدأت الولايات المتحدة عملية إزالة الصناعة، والتي أدت في نهاية المطاف إلى انحطاط مناطق واسعة وسط البلاد. في الوقت نفسه، اكتسبت طبقة الريع والمموِّلين الأمريكيين ثروات هائلة.
أطلقت الطبقة الحاكمة للولايات المتحدة، عبر إزالة الصناعة، صراعاً طبقياً ضد العمال والبرجوازية الصغيرة فيها، وحولت نفسها إلى طبقة ريعية طفيلية لم تعد تستفيد من الإنتاج، بل تغتني من صفقات العقارات والمضاربة المالية، مما خلق مشكلة الدين العام الأمريكي. ولم يعد أمام البنوك المركزية الأجنبية خيار سوى الاستمرار بشراء سندات الخزانة الأمريكية.
انحدرت المناطق الصناعية القديمة في النواحي الشمالية الشرقية والغرب الأوسط من الولايات المتحدة منذ الثمانينيات، وشكلت «حزام الصدأ»، وسقطت الطبقتان المتوسطة والعاملة في فخ الفقر والديون وتدهور الصحة. ومع تسارع إعصار دولارات الديون في وول ستريت، اخترع المصرفيون طرقاً معقدة للغاية للمضاربة بأسعار الأصول المختلفة وبِجبال الرِهانات المدعومة بالديون، والتي انهارت مؤديةً إلى الأزمة المالية لعام 2008 وفقدان الملايين من الأمريكيين منازلهم ووظائفهم وكرامتهم.

لا ترامب ولا غيره سينقذها

كل هذا ربّما ساعد في ترجيح رأيٍ بين الناخبين يوافق نظرة ترامب بأنّ حرب الناتو والقوة الصارمة لا تضمن بقاء الولايات المتحدة قويّة حقاً. لكن ترامب لم يكشف أبداً عن السبب الحقيقي وراء احتفاظ الولايات المتحدة بهيمنتها بعد خسارة «فائضها» التجاري منذ أواخر الستينيّات - وهو سيطرتها على نظام تداول الديون الدولارية العالمية المذكور أعلاه.
ورغم فوزه في الانتخابات، سيضطر ترامب قريباً إلى اتخاذ خيار كارثي بالنسبة لناخبيه؛ حيث يزعم أنه يخطط لفرض تعريفات جمركية باهظة على الصادرات الصينية والأوروبية إلى الولايات المتحدة لمنع «مذبحة» الحزام الأوسط الأمريكي [الولايات الوسطى والشمالية التي تمثّل مراكز زراعية وصناعية هامة]. وحتى لو ساعدت هذه التعريفات الضخمة في إعادة التصنيع إلى قلب أمريكا الصناعي بالفعل (وهو أمر مشكوك فيه)، فإنها ستقلّص أرباح الرأسماليين الأجانب وتقلّل الدولارات التي يرسلونها إلى وول ستريت وتخفّض الاستثمار في المنتجات المالية والعقارات - وهي ضربة قوية لثروة أصدقاء ترامب المقرّبين في الأسواق المالية والعقارية.
باختصار، يواجه ترامب خيارين لا يمكنه أبداً أن يجمع بينهما: إمّا أن يُخلِصَ لغالبية الأمريكيين فيضطرّ لكسر الحلقة بين العجز الأمريكي ودخل الطبقة الريعية، ولكن هذا يضحّي بالركائز الأساسية للحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة. أو أن يحاول الحفاظ على قوة الأسواق المالية والعقارية الأمريكية [وحتى لو نجح هذا مؤقتاً فلن ينقذ الولايات المتحدة من مواصلة تراجعها التاريخي]. لن يمر وقت طويل قبل أن يدرك غالبية الأمريكيين الذين صوّتوا لترامب أن ترامب «خانهم»، تماماً كما فعل أوباما عام 2009 وغيره من رؤسائهم السابقين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1201