الدّرس الواجب تعلُّمه من «تمرّد فاغنر»
بعد أربعة أيام من تمرّد فاغنر (الذي جرى في 23-24 حزيران 2023) نشر الدبلوماسي السيرلانكي وسفير سيرلانكا الأسبق في فرنسا، دايان جاياتيليكا، مقالاً في مجلّة «روسيا في الشؤون العالَمية» التي تصدر عن مؤسسة أبحاث السياسة الخارجية في روسيا. ورأى الكاتب بأنّ حرب أوكرانيا الحالية نتيجةٌ لسلسلة من الأحداث بدأت منذ «التآكل السرطاني للمنظومة السوفييتية منذ وصول نيكيتا خروتشوف إلى سدّة الحكم»، وأنه «سيتعيّن على القيادة والشعب الروسيَّين أن يقرّروا ما إذا كانت المؤسسة، أي النظام والهياكل القائمة، وكذلك البنية الفوقية، واجبةُ الاستبدال من أجل تشكيل الدولة» وأنّ هناك استحقاقات تغيير داخلية واجبة لكي تتمكن روسيا من البقاء والانتصار في الحرب.
ترجمة: قاسيون
لقد عايشت حربين أهليّتَين طاحنتين. وعملت عن قرب مع رئيس انتصر في إحدى الحربين ثمّ تمّ اغتياله، ومع رئيس آخر انتصر في الحرب في نهاية المطاف. علَّمْتني التجربة كيف أنّ المجتمع والدولة يحتاجان إلى إعادة الهيكلة والتشكيل لتجنّب الوقوع في فخّ سلسلة من الإخفاقات. العملية ببساطة هي تجريبٌ وتطوّرٌ، حيث تعلّمك ما أسماه الجنرال الفيتنامي فو نجوي جياب: «القوانين الموضوعيّة للتطوّر» لظاهرة ما، بما في ذلك الحرب والسلام.
يتحدّث البعض في روسيا اليوم عن تكرار تجربة الصراع الشيشاني التي انتصر الروس فيها في نهاية المطاف. وجهة نظري أنّه في بعض الأحيان يجب إعادة تعلُّم الدّروس نفسها. من الواضح تماماً أنّ هناك فرقاً كبيراً بين قتال الميليشيات ومحاربة دولة تدعمها كوكبةٌ من الدول الأخرى، لكن لا تزال بعض الدروس السياسية والعسكرية قابلةً للاستخدام بشكلٍ عالَمي وليس محلّي فقط.
ما حدث مؤخَّراً مع بريغوجين يجب أنْ يتمّ اعتبارُه إنذاراً مبكراً وظهوراً لعلامات اقتراب المرض، وبالتالي يجب معالجة الأسباب التي أدّت إلى هذا التمرّد. لكن هذا يقودنا إلى سؤالٍ أكثر جوهرية، ما هي هذه المشكلات التي يجب حلّها؟ إنّها باختصار مشكلاتٌ منهجية اجتماعية وسياسية ومؤسَّساتيّة. إذا رغبتْ أيّةُ مجموعةٍ في تجنّب مثل هذه النتيجة فعليها أن تكون مستعدةً لإجراء التغييرات والإصلاحات اللازمة لتصحيح الأخطاء وسد الثغرات – بما في ذلك المتعلقة بالتنسيق – التي قد تؤدي إلى مثل هذا السخط بين مقاتلي الخطوط الأمامية.
للانتصار في الحرب الشيشانية أجرى الرئيس بوتين تغييرات جادّة في الطريقة التي كانت تسير عليها الأمور. العدو اليوم أقوى بكثير، فنحن هنا بصدد الحديث عن الناتو، والجيش الأوكراني كرأس الحربة المقاتلة له. يعني هذا أنّ التغييرات في النظام الروسي يجب أن تكون أكبر مما كانت عليه في حالة الصراع الشيشاني. يجب على الرئيس نفسه اليوم أن يقوم من جديد بالاضطلاع بعملية التغيير المطلوبة اليوم.
الجيش السوفييتي الذي مثّل نظاماً حشد القوى وتمكّن من هزيمة الوحش النازي، وطارده عبر أوروبا وذبحه في عرينه، ورفع العلم الأحمر فوق الرايخستاغ في الوقت المناسب في الأول من أيار 1945، خسر بالمقابل حربه في أفغانستان ليسقط الاتحاد السوفييتي بعدها. كان الجيش والنظام الذي وراءه قد فقد حيويته. كان التآكل السرطاني للمنظومة السوفييتية قد بدأ قبل حرب أفغانستان بوقت طويل مع وصول نيكيتا خروتشوف إلى سدّة السلطة، وهذا التآكل الذي نشر الأوهام المميتة حول الغرب هو نقطة البداية للأزمة في أوكرانيا التي نشهدها اليوم.
اليوم مع قيام أوكرانيا المدعومة من الناتو بالدَّوس على الأعتاب الروسيّة، تواجه روسيا خطراً وجودياً. إنّ تمرّد فاغنر كان مجرّد أزمة صغيرة، ولكنّه تحذيرٌ مبكر لما قد يحدث إذا لم تربح روسيا الحرب. لاحظ أنني أقول «انتصار» وأقول «حرب»، فلا يمكنك الانتصار في حرب إنْ لم تعترف بوجودِها وتعرف طبيعتها وأساسياتها. كصديقٍ مخلصٍ لروسيا أقولُ بأنّ الحنين للماضي القيصريّ لا يمكن أنْ يساعد على الفوز في الوقت الحاضر. كان شكلُ الدولة وروحُها ما قبل الرأسمالية في حينه، وقد عفا عليه الزمن. الأهم أنّ روسيا قد هُزمت مرَّتين في القرن العشرين عندما كان ذلك النظام قائماً في 1905 وبين 1914 و1917. أيُّ نوعٍ من «الأناقة الرّجعيَّة» في الأيديولوجيا أو النظام أو الروح غير المستدامة ستنتُجُ عنها كارثة أثناء مواجهة الدول الحديثة الرجعيّة التي تدعم الفاشيّين المعادين للرّوس.
جيش الفلاحين والعمّال
ببساطة وباختصار، إنْ كان الجيش الروسي يريد الانتصار فعليه القتال كما فعل الجيش الأحمر. لا يمكن أن تكون الإيديولوجيا المتفوقة هي التي تشعر بالحنين للجيش الأبيض، فإن حصل ذلك فلن يؤدّي الجيش إلّا كما أدّى الجيش الأبيض. كان الجيش الأحمر نتاج حدث تاريخي عام 1917. أنا لا أطالب أيضاً بأناقةٍ «ثورية» تعيد عقارب الساعة إلى الوراء. اسمحوا لي أن أطرح السؤال بهذه الطريقة، هناك ثلاث أناشيد وطنية أجدها مثيرة بشكل خاص، الأمريكية، والفرنسية، والروسية. هذه الأناشيد الثلاثة نتاجٌ لثورات، لكنّ واحداً فقط احتفظ باللَّحن وغيّر كلمات النشيد: النشيد الروسي.
ليس الأمر أنّ الأمريكيين والفرنسيين تصرّفوا في الشؤون العالمية أو حتى محلّياً، تماشياً مع المُثُل الملهمة الأصلية لنشيدهم الوطني، لكنّهم لم يغيروا كلمات الأناشيد. لقد تمكنوا من التوفيق بين الاستمرارية والتغيير. في حالة روسيا تمّ تغيير كلمات الأناشيد، حيث تخلّت عن الكلمات ذاتها التي أنشدها الجيش الأحمر على النغمة نفسها، حيث حاربوا النازيّين. كانت تلك الكلمات ذات مغزى عسكريّ لأنَّ جنود الجيش الأحمر كانوا عُمّالاً وفلاحين حصلوا على حياة جديدة بفضل الثورة والنظام الجديد – قاتلوا بدافعٍ فوقَ طاقة البشر، على عكس الجيوش القيصرية في القرن العشرين – أيضاً لأنهم كانوا يعرفون أنّهم إن هُزموا سوف يتمّ تجريدهم من كلّ ما حصلوا عليه لأوّل مرة في تاريخ عائلاتهم من قِبَلِ عدوّهم الخارجي والداخلي.
ربّما يجب فهم الأزمة داخل روسيا من كلمات لينين «وميض البرق الذي أضاء الواقع». ما هو هذا الواقع؟ في أكثر مستوياته وضوحاً هو أنّ الدولة والنظام العسكري يجب أن يتغيَّرا من أجل تمكين إعادة إنتاج المرونة والتحفيز والفعالية القتالية للمقاتلين العقائديين. كان القتال العقائدي هو شيء أتقنه الجيش الأحمر جنباً إلى جنب مع إتقانه الحرب التقليدية والمتنقلة. الحقيقة الأعمق، والدرس، الذي يتعيّن على روسيا إقرارها الآن هي مدى جهوزيتها وقدرتها على تغيير كلّ ما يحتاج إلى تغيير، دون ترك أيّ مجال أو بُعد دون مساس، لمنع الغرب الجماعي من إلحاق الهزيمة بروسيا.
الأسئلة التي طرحها تمرّد فاغنر على روسيا هي: «مَن سيسود على مَن»، «مِن أين نبدأ»، «ما العمل». إنّها الأسئلة ذاتها التي طرحها لينين. سيتعيّن على القيادة والشعب الروسيين أن يقرّروا ما إذا كانت المؤسسة، أي النظام والهياكل القائمة، وكذلك «البنية الفوقية»، واجبةُ الاستبدال من أجل تشكيل الدولة. لقد غيّر الغرب 65 عاماً من سياساته وموقفه تجاه روسيا، وتحوّل إلى هجوم إستراتيجي كبير يهدف إلى تحقيق النصر المطلق عليها. يرغب الغرب في إملاء شروط نهاية الحرب ومصير روسيا ما بعد الحرب. في مواجهة هذا التهديد، لا يمكن لروسيا أن تبقى جامدة وواقعية وغير متحركة ومتحجّرة ومحافظة. لا يمكن لروسيا أنْ تبقى كما هي وأنْ تتمكَّن من الدفاع عن نفسها في الوقت ذاته، ناهيك عن تحقيق النصر، والطريقة الوحيدة في البقاء والدفاع هي النصر.
التغييرات التي سيتعيّن على روسيا إجراؤها هي البحث واختراع إيديولوجيتها الثورية الخاصّة. يجب أن تكون من الناحية الموضوعية ثوريّةً بقدر الإمكان. ورغم أنّ مرحلة التغيير الحالية لروسيا قد لا تصل إلى ما وصلت إليه روسيا في أيام بطرس الأكبر وجوزيف ستالين، لكن يجب أن تبدأ العملية التي تعبّر بشكل صريح عن نتيجة التغيير اللازم لروسيا بحيث يكون تمرّد فاغنر نقطة علّام لنهاية حقبة ما بعد الاتحاد السوفييتي والنظام المشوَّه الذي خلقتْه.
بتصرّف عن:
The Lessons of the Wagner Mutiny
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1131