واقع أوكرانيا يقوّي أصوات المعارضة في ألمانيا
كلّما أصبح واقع الحرب في أوكرانيا ثقيلاً على الغرب أكثر، بات موقف السياسيين الأوروبيين أصحاب الرؤوس الحامية الذين وعدوا «بانتصارات» تقضي على روسيا مرّة واحدة إلى الأبد، أضعف. في الوقت ذاته تتعالى الأصوات النقيضة لهم، الأكثر عقلانية والتي تدرك بأنّ الاصطفاف إلى جانب الأمريكيين لن يجلب لبلدانهم إلّا خراباً تلو آخر. ضمن هذا السياق كانت المقابلة مع سيفيم داغديلين، النائبة في البرلمان الألماني عن «حزب اليسار الاشتراكي»، مهمّةً لإظهار تصاعد التململ من الموقف الألماني من الحرب في أوكرانيا. إليكم أبرز ما جاء في هذه المقابلة مع صحيفة «غوانتشا» الصينية.
ترجمة: قاسيون
س- ما رأيكِ بما قاله المستشار الألماني أولاف شولتز بداية العام: «من أجل إنهاء الحرب في أوكرانيا، يجب أن تُهزم روسيا» هل لا يزال ذلك قائماً؟
ج- للحرب في أوكرانيا تاريخها الخاص، ومن المستحيل فهمها دون الأخذ بالاعتبار أنّ الغرب خرق التزام الناتو بعدم التوسّع شرقاً، وبأنّ الناتو استخدم أوكرانيا وسلّحها من أجل أن تصبح حصناً مناهضاً لروسيا. لم تبدأ الحرب الروسيّة في شباط من العام الماضي، بل بدأت في 2014، وحتّى الأمين العام للناتو اعترف بذلك. أنفقت الولايات المتحدة 5 مليارات دولار لدعم الانقلاب في كييف وفقاً لنائبة وزيرة الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند الشهيرة بمقولة «[تباً] للاتحاد الأوروبي». بتنا نعلم اليوم أنّ اتفاق مينسك الذي تمّ التوصل إليه بمساعدة المستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسي هولاند لم يكن أكثر من محاولة استجماع القوة وتسليح أوكرانيا. من هذا المنطلق فالولايات المتحدة تتحمّل مسؤولية هذه الحرب.
خَطا المستشار الألماني خطوة مميتة بتعليق آماله عالياً على النصر العسكري في حرب الناتو الهجينة ضدّ روسيا، بينما صعّد الحرب الاقتصادية ضدّ روسيا بشكل حاد ومدمّر للذات. أعلن وزير الخارجية الألماني أنّ هدف السياسة الحكومية الألمانية هو «تدمير روسيا». كان هذا ولا يزال خطأً قاتلاً. ما نحتاجه اليوم هو نهجٌ بديل يدعم المفاوضات وإيجاد حلول سلميّة، ويوقف بشكل فوري تسليم السلاح لأوكرانيا. تسليم السلاح الثقيل لأوكرانيا والتعاون مع النازيين الجدد من الروس المتعاملين مع السلطات الأوكرانية هو أمر مقلق بشكل خاص. يجب أن يتحمّل المستشار شولتز أيضاً مسؤولية السياسة السيّئة للاتحاد الأوروبي لتسليح النازيين الجدد وزراعة بذور «داعش أوروبي».
س- بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا بفترة قصيرة، أعلنت الحكومة الألمانية عن استثمار 100 مليار يورو إضافية في الدفاع الوطني وعدّلت على الفور سياسة تصدير السلاح. ما هي الآثار التي تحملها هذه القرارات على السياسة الدفاعية لألمانيا في المستقبل؟ هل وصل المجتمع الألماني إلى توافق على استعادة ألمانيا لوضعها كقوّة عسكرية؟
ج- لا يزال الجدال حامياً في المجتمع الألماني حول إعادة تسليح البلاد لتصبح ثالث أكبر ميزانية عسكرية في العالم، والأكبر في أوروبا. الكثير من الناس لا يفهمون الحاجة لمثل هذه السياسة. استخدام الحرب الدائرة في أوكرانيا كعذر للقيام بذلك هو أمر لا يطيقه كثيرون. ربّما الأكثر أهميّة هو أنّ تحويل ألمانيا إلى دولة مهووسة بالتسلّح سيعني بشكل واضح وجوب دفع كلفة اجتماعية مرتفعة. تركيز الحكومة الألمانية على التسلّح يعني بشكل حتمي قيادتها للتدهور الوشيك لظروف المعيشة الاجتماعية لشريحة كبيرة من سكّان ألمانيا. في الوقت الذي لا يستطيع فيه 25% من طلاب الصف الرابع في ألمانيا القراءة أو الكتابة بشكل طبيعي، تواصل الحكومة زيادةَ الإنفاق العسكري وليس الاجتماعي!
س- ما موقفكِ من فكرة «إبعاد المخاطر» الصينية عن أوروبا التي تحتلّ الجدل في ألمانيا؟
ج- إنّ ما يسمّى «إزالة المخاطر» هو في الأساس مجرّد وصفٍ للإجراءات التدريجية «للفصل» باعتباره الهدف النهائي. نظراً لأنّ الاتحاد الأوروبي قد مرّر لتوّه الجولة الحادية عشرة من العقوبات ضدّ روسيا، وأدرج شركات أجنبية خارجية في قائمة العقوبات الثانوية لأوّل مرة، بما في ذلك ثلاث شركات مقرها في هونغ كونغ في الصين، فمن الواضح أنّه تحت ضغط من الولايات المتحدة ويسعى إلى فرض عقوبات ضدّ الصين. الحرب الاقتصادية هي الحقيقة الكامنة وراء ما يُعرف باسم «إزالة المخاطر».
هناك بالفعل نقاشات داخل الحكومة الألمانية حول مدى الانحناء لهذه الإستراتيجية. يعلم الجميع أنّ هذا يعني كارثة على الصناعة الألمانية وملايين العمّال الألمان. ومع ذلك، يدعو البعض في الائتلاف الحاكم ألمانيا بصراحة تامة إلى شنّ حرب اقتصادية مدمّرة للذات ضدّ الصين واتباع نهج أكثر عدوانية تجاهها، بل وحتى إنهاء آلية المشاورات الحكومية بين ألمانيا والصين التي أعاد تفعيلها رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ عندما زار ألمانيا مؤخراً. الصين هي الشريك التجاري الأكبر لألمانيا، وترتبط مئات آلاف الوظائف في ألمانيا ارتباطاً وثيقاً بالتعاون بين البلدين. تحتاج ألمانيا والصين إلى مزيد من التعاون بدلاً من المواجهة، ليس فقط على المستوى الاقتصادي، ولكن أيضاً في مجالات العلوم والثقافة.
س- ما رأيكِ في زيارة الرئيس ماكرون إلى الصين ودعوته أن تكون أوروبا أكثر استقلالاً من الناحية الإستراتيجية، وما ينتج عنها من الجدل في أوروبا؟ كيف تقيّمون الأهمية التي توليها فرنسا وألمانيا لتطوير العلاقات مع الصين؟
ج- أعتقد أنّ هناك فجوة متزايدة بين طموحات الرئيس الفرنسي ماكرون والواقع. عندما كان في الصين أشار إلى الحاجة إلى سياسة خارجية أوروبية مستقلة، ولكن بمجرد عودته إلى باريس تصرّف مرة أخرى مثل التابع الأمريكي حيث وافق دون تردد على جولة العقوبات الحادية عشرة، بما في ذلك العقوبات ضدّ الشركات من هونغ كونغ. أنا لا أثق في خطاب ماكرون، وأعتقد أنّ ما يفعله الغرب مع الصين اليوم يشبه ما فعلوه مع روسيا قبل اتفاقيات مينسك، تبادلات دبلوماسية هدفها فقط تغطية حقيقة أنّ سياساتهم تجاه الصين تقوم على المواجهة. وبالنظر إلى الوضع المحفوف بالمخاطر، من المهم أكثر من أيّ وقت مضى لسياسة خارجية وأمنية أوروبية مستقلة أن تحافظ على علاقات جيدة مع الصين.
لقد تضرَّر الاقتصاد الألماني بشكل خاص من الحرب الاقتصادية الغربية ضدّ روسيا. أدّى انهيار العلاقات الاقتصادية الألمانية الروسية إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة المحلية. يواجه العمّال الألمان أكبر انكماش حقيقي في الأجور منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كما أنّ القدرة التنافسية للصناعات الألمانية كثيفة الاستخدام للطاقة معرَّضةٌ للخطر أيضاً. في نيسان تراجعت الطلبات التي تلقّتها الشركات الصناعية الألمانية مرةً أخرى بانخفاض بمعدل 9.9% على أساس سنوي. يدقُّ الاقتصاديون ناقوس الخطر، ويتوقّعون حدوث ركود آخر في ألمانيا في النصف الثاني من العام. لذلك، يجب أن نعتبر العقوبات المفروضة على روسيا بمثابة عمل أحمق لتدمير الذات تمّ إنشاؤه فقط من خلال الضغط الأمريكي وضد مصالح الجمهور الألماني.
الوضع السياسي الحالي في ألمانيا ملحّ للغاية، فقد قامت الأحزاب اليمينية المتطرفة بتعبئة الجمهور، بوصفها الأصوات الوحيدة التي تجرأت على معارضة المساعدات العسكرية لأوكرانيا وشنّ حربٍ اقتصادية، وقد نالت الكثير من الدعم بسبب ذلك. بينما تخشى الأطراف المتباينة في «اليسار» فعل ذلك، وحتى المقتنع بذلك منها يتحدث عنه خفية. عاجلاً أم آجلاً ستظهر آثار هذا الوضع في السياسة الألمانية. نحن بحاجة ماسّة للتواصل مع الجماهير ومحاربة هذا الاتجاه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1131