الحرب الحديثة بخطورة ودمار الحرب القديمة
بول روبنسون * بول روبنسون *

الحرب الحديثة بخطورة ودمار الحرب القديمة

يبدو التصريح الذي قاله ألكسندر خوداكوفسكي، وهو قائد كتيبة فوستوك في جمهورية دونتسك: «سلاح الجندي الرئيسي ضدّ الموت هو رفش/مجرفة» وكأنّه لا يمتّ للحرب المعاصرة فائقة التقنية بصلة. ولكن وكما أثبتت الحرب الدائرة في أوكرانيا، فالدعاية الغربية عن أنّ الحرب الحديثة أقلّ أذى وأكثر دقّة بسبب التطور العسكري، وأنّ تكاليفها المادية المرتفعة هي الثمن الذي يجب دفعه من أجل تقليص تكاليفها البشرية، هي مجرّد دعاية فارغة.

ترجمة: قاسيون

بات اليوم واضحاً بأنّه بالرغم من الأدوات التكنولوجية المتطورة للحرب الحديثة، لم يتغير شيء يذكر في الطريقة التي تقاتل فيها الجيوش الكبيرة بعضها على مدى مئة العام الماضية. فالحرب لا تزال تتمحور حول تجميع أكبر قوة ممكنة وتجهيزها بأكبر عدد ممكن من الأسلحة وإطلاق أكبر قدر ممكن من الذخيرة تسمح به المصانع والمخازن. فالحرب الحديثة ببساطة ليست دقيقة على الإطلاق.

كثافة نيران الحرب القديمة

لم يكن يفترض بالأمور أن تجري على هذا النحو، فقد كان المنظرون العسكريون الرسميون على مدى الثلاثين عاماً الماضية يقولون للشعوب الغربية أثناء استخراج الأموال منهم ودفعها لمجمع الصناعات العسكري، بأنّ طبيعة الحرب قد خضعت لتغييرات أساسية تجنبهم – وتجنّب حتّى خصومهم – الموت والدمار الذي كان قائماً في الحروب القديمة. وفقاً لهؤلاء المنظرين فالأسلحة دقيقة التوجيه تسمح للجيوش بتقليص استعمال الذخيرة بشكل كبير بسبب قدرتها الفائقة على إصابة الهدف. كما أنّ آليات الاستطلاع والمخابرات الحديثة ستسمح بدورها «بهيمنة معلوماتية» تزيح ضبابية المعارك. يفترض أيضاً بشبكات الكمبيوتر أن تخدم هدف تصويب الهجمات وتحديد أماكن العدو بحيث تصبح الانتصارات أسرع وأسهل وأقلّ تكلفة.
عنى هذا أنّه لم يعد هناك حاجة لجيوش جرارة لديها معدات ثقيلة هائلة، بل مجموعات صغيرة وقوات متفرقة تتحرك على طول الميدان تعتمد على مصدر نيران هائل يأتي من السماء. لكنّ التطبيق العملي جعل من هذا الكلام بعيداً عن الدقة والصحة ومجرّد خيال، وتكفينا نظرة إلى الحرب في أوكرانيا لنتأكد من ذلك.
أولاً، لم تقلص الأسلحة دقيقة التوجيه من كميات الذخيرة المستخدمة ولا بأيّ شكل من الأشكال. لا يمكننا أن نعلم على وجه الدقة عدد الذخيرة التي صرفت في أوكرانيا، ولكن كمثال تذهب التقديرات إلى أنّ وسطيّ ذخيرة المدفعية المستخدمة من الجانب الروسي هي بقرابة 20 ألف طلقة يومياً، ومن الجانب المقابل ثُلث هذا العدد. يعني هذا بأنّه قد تمّ إطلاق ثمانية ملايين طلقة مدفعية حتّى اليوم في هذه الحرب.
لم تقتل هذه الطلقات بالتأكيد ثمانية ملايين إنسان، فبالرغم من أنّ أنظمة المدفعية العصرية دقيقة بشكل هائل، فإنّ 95٪ من هذه الطلقات لا تؤذي شيئاً بسبب التحصّن وخلافه. ينطبق الأمر ذاته على الذخيرة الفردية. وفقاً لواحد من التقديرات فإنّ القوات الروسية قد استخدمت ألفي رصاصة بندقية يومياً في معركة بلدة بخموت، وأنّ 99٪ من هذا الرصاص لم يصب الهدف. ينطبق الأمر ذاته على معارك أخرى، فقد قدّرت الولايات المتحدة في تقرير رسمي منذ عدّة أعوام بأنّ الجيش الأمريكي قد استهلك 250 ألف رصاصة مقابل قتل كلّ شخص في العراق وأفغانستان.

تحصينات دفاع الحرب القديمة

أمام هذا الزخم الناري، يقوم الطرف المدافع– كما هي الحال في الحربين العالميتين، بالتحصن باستخدام الخنادق والدشم وغيرها من التجهيزات القديمة ذاتها. كتب صحفي الحرب الروسي ألكسندر كوت: «سافرت من خيرسون إلى لوغانسك، وكان هناك حرفياً تشييد لتحصينات على نطاق صناعي: خنادق، وخنادق مضادة للدبابات وموانع إسمنتية ودشم محصنة».
أعادت الحرب في أوكرانيا التأكيد على أنّ «الحرب دون مواجهة»، أو الحرب عن طريق مفارز صغيرة سريعة الحركة تعتمد على الدعم الجوي أمر خيالي، وأنّ هناك بدلاً من ذلك على الأرض حرب تعتمد على جيوش جرارة بطيئة الحركة تعتمد على المدفعية.
في هذه الحرب، وخلافاً لما قاله المنظرون العسكريون في السنوات الماضية، الميزة لن تكون للمهاجم بل للذين يدافعون بشكل أفضل. تسهم أنظمة المراقبة الحديثة في ذلك. الطائرات دون طيار في كل مكان، وبعضها عسكرية الطابع، لكن معظمها مروحيات رباعية تمّ سحبها من رفوف المتاجر وتجهيزها عسكرياً. الطائرات دون طيار زهيدة الثمن بالمقارنة مع الطائرات التقليدية، وحتّى الجيوش المتواضعة يمكنها تجهيز نفسها بالمئات منها. النتيجة لذلك هي أنّه سيصعب بشكل متزايد إخفاء وتحصين أعدادٍ كبيرة من القوات التي اتضح أنّها لازمة لتنفيذ العمليات الهجومية. فرغم عدم استحالة الأمر، من الصعب تعريض الجيوش المهاجمة لخطر اكتشافها وتدميرها بوساطة المدفعية الهائلة للعدو، ما يعني المزيد من التحصينات والبطء في الحركة.
تعقّد هذه الحقيقة متطلبات الهجوم، وتقوي الميل إلى استخدام مكثف للتمهيد المدفعي طويل الأمد قبل أي عمل هجومي. يعني هذا أنّ الوعود بحروب سريعة وخاطفة غير موجودة، وأنّ أمام المدافعين فرصة تعويض الثغرات في جيوشهم بسرعة، وأنّ النجاحات المحدودة التي يحققها التمهيد المدفعي قد تذهب سدىً في حال عدم وجود جيوش جرارة تمضي قدماً باستخدام معداتها وتجهيزاتها الكبيرة.

من ينتفع من الحرب القديمة؟

يمكننا أن نكون واثقين من أنّ مجمع الصناعات العسكرية الغربي يراقب عن كثب ويسجل ملاحظاته، وأنّ هذه الحقائق تدفعه للابتسام والفرح. فالحقائق التي أثبتتها الحرب في أوكرانيا أنّ هناك حاجة للإبقاء على جيش كبير وتجهيزه بعتاد هائل وبذخيرة كبيرة تعني بأنّ محافظهم السمينة بالفعل لن تنضب. ليس علينا أن نستغرب سماعنا في الفترة المقبلة للمنظرين العسكريين وهم يؤكدون على الحاجة لأدوات الحروب القديمة ولجيوش ضخمة ولقدرات تأمين واستخدام ذخيرة هائلة، وأنّ هذا ما سيقرر نتائج المعارك القادمة. يعني كلامهم الحاجة السريعة للانتقال من القوات الخفيفة التي تفضلها الدول الغربية إلى قوات جرارة مناسبة للحرب الباردة الجديدة، مجهزة بقدرات عسكرية صناعية ضخمة، وبمخزونات كبيرة وقت السلم.
سيحرصون على أن يكون هذا منطقياً وأن يتمّ تمرير ما يحتاجه مجمع الصناعة العسكرية ليزدهر أكثر. لكن هذا لن يحدث إلّا إذا أخذنا بالاعتبار بأنّ القتال سيكون بين أقران، وهو الأمر الذي لم تقم به الدول الغربية منذ زمن طويل. لكن هناك درس آخر على المخططين العسكريين أن يستخلصوه من المعارك في أوكرانيا: إنّ مثل هذه الحرب هي بمثابة الانتحار وإعادة مآسي الحروب الكبرى بمعدات أكثر تطوراً وبقوة نارية أكبر.
لهذا وعوضاً أن نسمح بأن تقوم شركات التسلّح بتحديث بياناتها والسعي لتحقيقها، على الشعوب أن تقوم بأقصى ما تستطيع كي ترفض إشعال وخوض هذه الحروب، بحيث نتفادى تكرار أخطاء الماضي. فتعلّم خوض مثل هذه الحروب سيعني أقصى قدر من الدمار والمآسي، ناهيك عن أنّ تكاليف تجهيز هذه الجيوش الجرارة ومدفعيتها وطائراتها وذخيرتها هي خسارات مسبقة سيكون عليهم تكبدها لصالح مشعلي الحروب.

*بول روبنسون: بروفسور في كلية العلاقات الدولية والعامة في جامعة أوتاوا الكندية، وزميل أول في معهد السلام والدبلوماسية.

بتصرّف عن:
same the stays it more the,changes war more the :ukraine

معلومات إضافية

العدد رقم:
1101
آخر تعديل على الخميس, 22 كانون1/ديسمبر 2022 15:02