البيرو.. عدم جدوى الاستزلام للأمريكيين
أوديت الحسين أوديت الحسين

البيرو.. عدم جدوى الاستزلام للأمريكيين

في مساء 7 كانون الأول تمّ خلع الرئيس البيروفي بيدرو كاستيو عبر انقلاب برلماني. لا يزال من المبكر أن نفهم تماماً ما الذي سيحدث تالياً فجميع السيناريوهات مفتوحة اليوم، لكنّ الأكيد أنّ كاستيو لم يطبّق عملياً من «اليسار» إلّا اسمه، وأنّ محاولاته الاستزلام للأمريكيين والانبطاح أمام اليمين البيروفي لم تنجّه من خلعه وتخلي حلفائه في الوسط السياسي عنه. بأيّة حال علينا أن ننظر لما حدث من زاوية تحليل جيو إستراتيجي وتأرجح صعود القوى اليسارية في أمريكا اللاتينية وتهديد ذلك لهيمنة القوى الإمبريالية والقوى التابعة لها.

استلم كاستيو الرئاسة في البيرو في حزيران 2021، ومنذ ذلك الوقت تعرّض لثلاث محاولات خلع من النخب البوليفية المدعومة بشكل هائل وعلني من جميع أجهزة الولايات المتحدة. أظهر لنا سقوط كاستيو في يد البرلمان من جديد مدى عدم جدوى الإستراتيجيات السياسية التي تعتمد بشكل كلي على إحداث تغيير من خلال الإدارات في الدولة البرجوازية، وهي التي وصفها ماركس بأنّها ليست أكثر من مجالس إدارة أعمال برجوازية. كما أنّها تدلّ على فشل إستراتيجية «التوفيق الطبقي» والوحدة الوطنية مع النخب الاقتصادية التي اعتمدها كاستيو ضمن ما يمكن أن نسميه «اليسار الإصلاحي الجديد»، ما جعله يبقي على أعمدة النظام النيوليبرالي القائم في البلاد منذ 1993.
حاول كاستيو في إجراء «بونبارتي» أن يستبق خلعه عبر الإعلان عن حلّ البرلمان، لكنّ إعلانه لم يجد أذناً مصغية من مؤسسات الحكم البيروفية المسلّحة التي دعمت في 1992 انقلاب رائد النظام النيوليبرالي فوجيموري، وعادت ودعمت الرئيس فيزكارا في 2019 قبل أن تعود وتخلعه بعد عامين. إنّ محاولة كاستيو كان محكوماً عليها بالفشل ليس فقط بسبب فقدانه لدعم مؤسسات الحكم المسلحة، بل أيضاً بسبب خساراته لدعم قسم كبير من القطاعات الشعبية التي صوتت له وأوصلته للحكم في المقام الأول، والتي كانت تشاهد انزياح كاستيو بشكل منهجي ناحية اليمين ونقضه لجميع وعوده الانتخابية.

خطأ الإصلاح لا الجذرية

كيف استجاب كاستيو للهجمات اليمينية عليه قبل أن يتمّ خلعه؟ في الحقيقة لم يفعل أكثر من تكييف حكمه مع متطلبات النخب الاقتصادية واليمين البرلماني والقاري. أخلف كاستيو وعده بتغيير الدستور، وهو المقترح الذي لم يصل حتّى إلى الكونغرس. كما أبقى على جميع القوانين والأحكام المعادية للعمّال والمعادية للشعب التي تمّ بناؤها أثناء إتمام الدورة النيوليبرالية التي فرضها الانقلاب النيوليبرالي. ناهيك عن أنّ سياساته لمواجهة كوفيد لم تختلف بشكل جوهري عن سلفه حيث اعتمدت في الجوهر على تحميل الطبقة العاملة عبء مقاومته. يشرح هذا الانزياح والانبطاح أمام اليمين الدفاع الشعبي الضعيف عن كاستيو في مواجهة الكونغرس الذي يحظى بمستوى شعبية أقلّ منه حتّى قبل ساعة من خلعه «24٪ له و11٪ للكونغرس».
الأزمة البيروفية هي واحدة من أعمق وأطول الأزمات السياسية في القارة. فالنظام السياسي الذي كان فاعلاً في رفع راية «الحرب ضدّ الإرهاب» ارتكب جرائم وهجمات وحشية ضدّ العمّال والفلاحين والحقوق الشعبية. النظام البيروفي القائم منذ 1993 كان مصمماً لضمان التحوّل الكبير في الرأسمالية البيروفية، عبر تعزيز خصخصة الصناعات الوطنية وتسليم الموارد الطبيعية إلى رأس المال الأجنبي النهم.
تظهر هذه الأزمة حقيقة استنفاذ المؤسسات السياسية للنموذج النيوليبرالي صلاحيتها. عبّرت هذه الأزمة عن نفسها بشكل واضح في سقوط حكومتي بابلو كوتشينسكي وفيزكارا على يد الكونغرس، وحقيقة أنّ جميع الرؤساء والعديد من كبار المسؤولين الذين كانوا جزءاً من حكومات الثلاثين عاماً الماضية هم اليوم في السجن ومتهمون بالفساد. وربّما أوّل ظهور للرئيسة الجديدة للبيرو خلفاً لكاستيو: دينا بولارتيه– مع التهليل الغربي الفارغ لكونها المرأة الأولى التي تصل إلى سدّة الرئاسة في البيرو– في احتفال عسكري وهي تتملّق الجنرالات يثبت بأنّ الأزمة البيروفية مستمرّة بحماية من المؤسسات المسلحة. أعلنت بولارتيه بأنّها تريد إكمال الفترة الرئاسية، وهو ما اعتبره كثيرون نوعاً من الخيانة تبعاً لإعلانها من قبل عن أنّها ستستقيل في حال عزل كاستيو.

البحث عن الولايات المتحدة

لم تخفِ المؤسسات الرسمية والإعلام الشركاتي الأمريكي الكبير الفرحة بما آلت إليه الأحداث في البيرو، بدءاً بغضب السفيرة الأمريكية في البيرو وانتقادها كاستيو ومحاولته «إغلاق البرلمان»، مروراً بإعلان هيئة تحرير الواشنطن بوست: «ديمقراطية البيرو تثبت مرونتها ضدّ الانقلاب الرئاسي»، وصولاً إلى إعلان مؤسسة بلومبيرغ بأنّ «أحداث البيرو تعني بأنّ المدّ الوردي في أمريكا اللاتينية قد انتهى».
إنّ محاولة كاستيو الاستعانة بمنظمة الدول الأمريكية «OAS»، وهي المعروفة بهيمنة الولايات المتحدة عليها وكونها وكالة متواطئة في العديد من الانقلابات المدعومة من المخابرات الأمريكية، تعني بشكل أو بآخر بأنّ كاستيو كان مستعداً للمساومة أكثر والتسليم أكثر متوسلاً من أجل «الاعتراف بشرعيته»، وهو إذا ما تجاوزنا عن كونه مؤشراً على القصور السياسي وعدم قراءة تاريخ الولايات المتحدة، فهو مؤشر على أنّ كاستيو قد تخلّى بالفعل عن الأصوات التي أوصلته إلى الرئاسة، الأمر الذي كان يجب أن يكون واضحاً منذ محاولته الاستزلام للأمريكيين بانتقاد حكومة فنزويلا «غير الديمقراطية»، أو بالتصريح المشترك مع وزير الخارجية الأمريكي بانتقاد «الغزو الروسي لأوكرانيا».
يحاول بعض المدافعين عن كاستيو إظهاره كبطل واقعي يتجنّب صداماً مع القوات المسلحة، ولكن تصبح هذه المقولات اليوم بلا جدوى إذا ما وضعناها في سياق عدم وفائه بوعوده أولاً، وخلعه من قبل البرلمان بدعم من الولايات المتحدة التي حاول الاستزلام لها ثانياً.
يمكننا فهم أهميّة البيرو الخاصة بالنسبة للولايات المتحدة في أنّها من المنتجين الكبار للنحاس والفضة، حيث كانت في 2021 تتصدّر العالم في احتياطيات الفضّة، وتقع ثانياً في احتياطيات النحاس. كما أنّها تحوي احتياطات كبيرة من الذهب والمعادن الهامة الأخرى مثل الموليبدينوم. تمثّل مبيعات النحاس البيروفي إلى الصين – وهي التي لا يزال طلبها ضعيفاً ناهيك عن فشل أسعارها في مواكبة التضخم – إلى حدّ بعيد الصادرات الرئيسية للبيرو، يليها الذهب والغاز.
توقّع العالم السياسي البيروفي خورخيه آراغون أنّ حكم بولارتيه سيكون معقداً وشديد الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً، والهدنة مع البرلمان لن تدوم سوى شهر أو أكثر قليلاً، وبعدها ستعود أزمة الحكم البيروفية للظهور. قد يتزامن هذا مع تزايد أعداد المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشارع احتجاجاً على إنفاذ رأي البرلمان الفاسد وعدم الدعوة إلى انتخابات مبكرة، والذين تقوم قوات الشرطة اليوم بتفريقهم بالعصي وقنابل الغاز.
قد يتسق هذا مع تفضيل الأمريكيين اليوم أشخاصاً أكثر ولاءً، ولهذا من المتوقع أن يدعموا رئيس البرلمان: خوسيه ويليامز لاستلام الحكم، وهو عسكري سابق يعلن بشكل مستمر عداءه للإيديولوجيا الماركسية، ولديه صلات مع كارتل المخدرات، ويحاول التغطية على «مجزرة أكوماركا» في 1985 التي أدّت إلى مقتل 69 فلاحاً.
لكنّ استمرار أزمة البيرو لا يعني بأنّ عزل كاستيو هو انتصار نهائي للقوى الأكثر يمينية، فالنخب الحاكمة لن تكون قادرة على الاستمرار في قمع الصراع الطبقي عبر تحقيق انتصارات فارغة على «المدّ الوردي» الذي فقد لونه وشحب وبات بحاجة إلى التحوّل أكثر إلى الأحمر كي يتمكن من الصمود.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1100