من المقاومات إلى البدائل.. نظرة تاريخيَّة إلى العولمة البديلة
هنالك توجهان كبيران متناقضان على الصعيد العالمي:
توجه مسيطر اليوم، يفعل منذ 25 إلى 30 عاماً، يتمثل في مواصلة الهجمة الرأسمالية النيوليبرالية والإمبريالية. في السنوات الأخيرة، عبّر هذا التوجه عن نفسه عبر اللجوء المتزايد إلى حروبٍ إمبريالية، ولاسيما بهدف الحصول على حقول نفطية، وذلك عبر زيادة تسلح القوى العظمى وتعزيز الانفتاح التجاري للبلدان الخاضعة وتعميم الخصخصة وهجومٍ منهجي على الأجور وعلى آليات التضامن الاجتماعي التي حصل عليها العمال. هذا كله يشكل جزءاً من إجماع واشنطن. تطبق هذه الآليات في البلدان الأكثر تصنيعاً وفي البلدان النامية على حدٍّ سواء.
يتطور منذ نهاية التسعينات اتجاهٌ مضادٌ آخر، لاشك أنّه ضعيف جداً على المستوى العالمي، وقد عبّر هذا الاتجاه عن نفسه بأساليب عديدة: انتخاب رؤساء يروجون لقطيعة مع النيوليبرالية (بدأت هذه الحلقة مع انتخاب هوغو شافيز أواخر العام 1998) أو على الأقل لتسويةٍ معها؛ تعليق الأرجنتين لتسديد ديون خارجية عامة تعود لدائنين خواص اعتباراً من نهاية كانون الأول 2001 وحتى آذار 2005؛ تبني مجالس تأسيسية في فنزويلا وبوليفيا والإكوادور لدساتير ديمقراطية؛ تعزيز الحريات المدنية والسياسية وتقدمٌ في ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ بداية استعادة سيطرة الدولة على الشركات العامة الكبرى (النفط الفنزويلي) وعلى الموارد الطبيعية (الماء والنفط والغاز الطبيعي في بوليفيا) وعلى الخدمات الأساسية (إنتاج/توزيع الكهرباء والاتصالات في فنزويلا)؛ انخفاض عزل كوبا؛ فشل الألكا (اتفاقية التجارة الحرة) التي كانت واشنطن تريد فرضها على مجمل أمريكا)؛ بداية الألبا (البديل البوليفياري للأمريكيتين) وتطور اتفاقات تجارية واتفاقات مقايضة بين فنزويلا وكوبا وبوليفيا...؛ تعزيز اتفاقية النفط الكاريبي التي تسمح لبلدان منطقة الكاريبي غير المصدرة للنفط بشراء نفط فنزويلا بحسم قدره 40 % بالمقارنة مع أسعار النفط العالمية؛ خروج بوليفيا من السيردي (محكمة البنك الدولي حول الاستثمارات)؛ طرد الممثل الدائم للبنك الدولي في الإكوادور؛ إعلان نهاية قاعدة مانتا الأمريكية في الإكوادور بحلول العام 2009؛ إطلاق بنك الجنوب.
لم يكن ممكناً التفكير في هذا الاتجاه المعاكس لولا التحركات الشعبية القوية التي عارضت في أمريكا اللاتينية الهجمة النيوليبرالية منذ الثمانينات (نيسان 1985 في الدومينيكان، شباط 1989 في كاراكاس) في أرجاء مختلفة من الكوكب، وانفجرت منذ ذلك الحين بطريقة دورية. كما ساهم بقاء كوبا، على الرغم من حصار واشنطن واعتداءاتها في ولادة هذا الاتجاه المعاكس لأنها مثالٌ حي على إمكانية الصمود أمام القوة الاقتصادية والعسكرية العالمية الأولى.
كذلك، تلعب مقاومة الإمبريالية في العراق وفلسطين وأفغانستان دوراً أساسياً، لأنه يصعب على الولايات المتحدة تحقيق تدخل عسكري مباشر في أمريكا اللاتينية طالما أنه يتوجب عليها الاحتفاظ بعدد كبير من قواتها الخارجية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
نحن على أعتاب العام 2015، العام الذي ينبغي أن يجري التوصل فيه إلى الأهداف المتواضعة للألفية في مجال التنمية التي حددتها الأمم المتحدة في أيلول 2000: لايفصلنا عنه سوى حفنة أعوام، والمشهد المتاح مقلق للغاية.
تدهور شامل
يبدو أنّ شروط حياة جزءٍ معتبر من السكان تتدهور، سواء في البلدان الأكثر تصنيعاً أم في أجزاء العالم الأخرى. يمس هذا التدهور الدخل والعمل والصحة والتغذية والبيئة والتعليم والتوصل إلى الثقافة. وهو يخص تطبيق الحقوق الأساسية للأشخاص، أفراداً وجماعات. يبدو التدهور واضحاً على مستوى التوازن البيئي والعلاقات بين الدول والشعوب، مع لجوء القوى العظمى للعدوان العسكري. الولايات المتحدة ليست وحدها معتدية، بل لديها حلفاء في أوروبا التي شارك منها عدة بلدان ـ أو ما تزال تشارك بفعالية ـ في العدوان على العراق وأفغانستان. ناهيك عن إرهاب الدولة الذي تمارسه حكومة إسرائيل خصوصاً تجاه الشعب الفلسطيني والتدخل العسكري للسلطات الروسية ضد شعب الشيشان.
تتبدى أشكال البربرية كل يوم تحت أعيننا
تجول البضائع والخدمات ورؤوس الأموال والمعلومات دون عائق على مستوى الكوكب في حين يجري منع البشر من البلدان المفقرة من السفر إلى البلدان الغنية. يمثل منح رؤوس الأموال والبضائع حريةً كاملة للحركة وإنكارها على البشر تعبيراً عن البربرية المعاصرة.
في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، المقزز بصورة خاصة هو إنكار العدالة في ما يخص طالبي اللجوء.
من المثير للاشمئزاز سماع عددٍ من القادة السياسيين، بما في ذلك اليساريون منهم، يصادقون على فكرة عدم إمكانية استقبال كل بؤس العالم وبالتالي، ووفق هذا المنظور، مشروعية الرفض الجماعي لحق اللجوء إلى بلدان الشمال قبل الطرد الجماعي للأشخاص الذين لم يمنحوا هذا الحق أو منعهم من دخول الأراضي المعنية. دعونا نتذكر الأشخاص الذين قتلوا بالرصاص أثناء محاولتهم في العام 2005 عبور حواجز الاتحاد الأوروبي في المحميتين الإسبانيتين في المغرب. فلنتذكّر آلاف الأشخاص الذين يفقدون حياتهم أثناء محاولتهم عبور مضيق جبل طارق أو الوصول إلى جزر الكناري. بطبيعة الحال، لا تختص أوروبا وحدها بهذه الظاهرة، فنحن نعلم ما يجري على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة على ريو غرانديه.
في هذه الأثناء، يبلغ تمركز الثروة لصالح أقليةٍ ضئيلة من سكان العالم قمماً غير مسبوقة في تاريخ البشرية، إذ يمركز بضعة آلاف من الرأسماليين الأمريكيين والأوروبيين والصينيين والهنود والأفارقة ثروةً تفوق الدخل السنوي لنصف سكان الكوكب. إنها أيضاً بربرية.
تتزايد باستمرار الهوة بين البلدان الغنية والبلدان المفقرة. وهذا أمرٌ غير مقبول.
نشوء قوى المعارضة التاريخية
هل هنالك قوىً تاريخية قادرة على التصدي للاستيلاء التدريجي الذي تقوم به النيوليبرالية؟ الإجابة هي: نعم. إذا كان البعض يرى أصل هذه القوى في العام 1999 مع معركة سياتل ضد منظمة التجارة العالمية، فيبدو لنا أكثر مناسبةً اعتبار بضع سنواتٍ سابقة ركائز على طريق مقاومات العولمة النيوليبرالية. العام 1989 هام بهذا الصدد، فقد نظر إليه بوصفه عام سقوط جدار برلين الذي يكتسب بطبيعة الحال أهميةً تاريخية. كان سقوط برلين يتوافق مع نهاية الصورة المشوهة للاشتراكية البيروقراطية، وهي صورة فاسدة تماماً للمشروع الانعتاقي الذي تمثله الاشتراكية. لكنّ العام 1989 هو أيضاً عام الانتفاضة الشعبية الهائلة في فنزويلا في السابع والعشرين من شباط ضد تطبيق خطة التكييف التي أعدها صندوق النقد الدولي والنظام القائم. لا يمكن فهم التغيرات الجارية منذ عشر سنوات في فنزويلا إلا إذا أخذنا بالاعتبار تاريخ شباط 1989 ذاك. والعام 1989 هو أيضاً العام الذي جرى فيه الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية والتحرك الهائل ضد مجموعة السبعة الكبار التي اجتمعت في باريس حينذاك تحت شعار مكافحة إلغاء ديون العالم الثالث.
الركيزة الكبيرة الثالثة في تصاعد مقاومات الرأسمالية النيوليبرالية: العام 1994، فقد جرت ثلاثة أحداثٍ هامة في ذلك العام:
1ـ في الأول من كانون الثاني 1994، انفجر التمرد الزاباتي في تشاباس. كان ذلك التمرد تعبيراً عن نضالٍ قائمٍ منذ قرون ضد الاحتلال الإسباني والأنظمة القمعية التالية له. لقد قدّم ذلك الشعب الأصلي (المايا) مطالبٍ أساسية، وتوجه بلغةٍ كونية إلى مجموع سكان الكوكب، وبصورة خاصة عبر الرائد ماركوس. وقد تجاوزت تلك المطالب شخصه ومميزاته الشخصية تجاوزاً كبيراً، وأصبح تعبيراً عن حركةٍ أكثر عمقاً لأنّ هنود تشياباس لم يكونوا الوحيدين في تلك المعركة، إذ اجتمع هنود الإكوادور بصورة خاصة في كونفيدرالية الأمم الأصلية في الإكوادور (كوناي). وفي العام 2005، كان إيفو مورالس، وهو من الهنود الأيمارا، الزعيم السياسي والنقابي، أول زعيم هندي ينتخب رئيساً لبلدٍ في أمريكا اللاتينية.
2ـ في العام 1994 أيضاً جرى «الاحتفال» بالذكرى الخمسين لتأسيس البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وذلك عبر تجمّعٍ احتجاجي هائل في مدريد. لقد ألهمت هذه التظاهرة التي حملت شعار «أصوات الكوكب الأخرى» لاحقاً حركاتٍ اجتماعيةً فرنسية أقامت هيئاتٍ بالاسم نفسه في التحرك الذي جرى ضد مجموعة السبعة الكبار في مدينة ليون في العام 1996. ضمّت المبادرة الإسبانية منظمات غير حكومية، وحركات مثل «البرنامج 0.7» حيث ناضل شبابٌ كي يخصص بلدهم 0.7 بالمائة من الدخل المحلي الإجمالي للمساعدة العامة للتنمية، ولجنة إلغاء ديون العالم الثالث، وكذلك نقاباتٍ وحركاتٍ نسوية وحركات بيئية. منذ ذلك الحين، تحالفت بمناسبة تلك القمة المضادة مجموعةٌ كبيرة من الحركات التي التقت فيما بعد في سياتل عام 1999، ثم في بورتو أليغري في العام 2001، الخ.
3ـ اللحظة الهامة الثالثة في العام 1994: انفجار أزمة «تيكيلا» مجدداً في المكسيك. علينا التذكير بأنّه كان يجري الحديث إلينا في العام 1993-1994 عن المعجزة الآسيوية، عن المعجزة المكسيكية، عن المعجزة التشيكية بالنسبة لبلدان الشرق. كانوا يتحدثون عن البلدان الناشئة وعن نجاحاتها الكبيرة. لقد هزت أزمة «تيكيلا» أمريكا اللاتينية بأسرها. كانت بداية أزمةٍ ماليةٍ كبيرة أصابت على التوالي جنوب شرق آسيا في العام 1997-1998 وروسيا في العام 1998 والبرازيل في العام 1999 والأرجنتين وتركيا في العام 2000-2001.
إذا كان العام 1989 يعيّن بداية مقاومةٍ جماعية ومثابرة في أمريكا اللاتينية ضد السياسات النيوليبرالية، فإنّ العام 1994 يمثّل منعطفاً في مجال التعبير عن أشكال جديدة للمقاومة، وتحالفاتٍ جديدة، وأزمة النموذج النيوليبرالي، في حين يظهر العام 1999 على الصعيد العالمي وفي الزمن الحقيقي إمكانية النضال الظافر ضد منظمة التجارة العالمية...
مقاومات جديدة في كل مكانٍ تقريباً
فرضت حركات فلاحية نفسها على مستوى الكوكب: تأسيس حركة المحرومين من الأرض في العام 1984 في البرازيل، تأسيس المنظمة الفلاحية الدولية فيا كامبسينا في العام 1992، ظهور شخصية جوزيه بوفيه الإشكالية اعتباراً من سياتل، تعزيز الحركة النقابية لمنتجي نبات الكوكا بزعامة إيفو مورالس في بوليفيا، ونضالات عديدة للحركات الفلاحية في الهند وكوريا الجنوبية ومناطق أخرى من الكوكب.
من كان يتخيل في العام 1960 في البلدان الأكثر تصنيعاً بأنّ الفلاحين سوف يلعبون دور رأس حربة النضال الجديد المناهض للعولمة؟ ينبغي أيضاً أن نأخذ بالاعتبار حركات السكان الأصليين، إذ إننا نرى أيضاً شعوباً أصلية تقوم بالهجوم. ففي بوليفيا على سبيل المثال، كان عمال المناجم الهنود ونقاباتهم طليعة الشعب البوليفي من الأربعينات إلى الستينات. وبعد إغلاق جزءٍ كبير من المناجم في الثمانينات، أصبح الهنود، ولاسيما زارعو نبات الكوكا، هم الذين يشكلون الحركة الفلاحية وحركة السكان الأصليين في آنٍ معاً. لقد رأينا عمال المناجم، المتقاعدين أو الذين فقدوا عملهم، يتضامنون مع حركة السكان الأصليين والفلاحين، وقام تحالفٌ جديد.
نستطيع أيضاً التحدث عن حركة النساء التي أعيد إطلاقها مع مسيرة النساء العالمية في العام 2000؛ كذلك، شهدت مختلف حركات الشباب مدىً واسعاً في مطلع الألفية. هنالك أيضاً القوى الجديدة، «البروليتاريون الجدد» أو المنبوذون الجدد. إنّ تمرد الضواحي في فرنسا في تشرين الثاني 2005 (والتي كان لها امتدادٌ خفيف في بلجيكا وألمانيا)، وبصورةٍ أقل اتساعاً في تشرين الثاني 2007، هو تمرد البروليتاريين الجدد. الأمر لا يتعلق بمن يعانون الاستغلال في المصانع في قطاع الصناعة، على الرغم من أنّ جزءاً منهم هم كذلك. شباب الضواحي الذين انتفضوا خريف العام 2005 هم بروليتاريون بكل معنى الكلمة: فهم لا يمتلكون أدوات عملهم، ويضطرون إلى تأجير قوة عملهم ودماغهم ليعيشوا ويدعموا عائلاتهم. وهم يعيشون في شروطٍ بائسة، وكثيراً ما يكونون ضحايا للعنصرية.
من أين يمكن أن يأتي التغيير؟
من ضمن القوى التي تعمل على التغيير، تعبّر حركاتٌ مقاومة عن نفسها في القطاعات الجغرافية كافة في الكوكب، حتى في بلدٍ هو حالياً على هامش مسار المنتديات الاجتماعية تماماً: الصين. فهذا البلد يشهد حالياً نضالاتٍ اجتماعية هامة للغاية، لكن هنالك صعوبة أساسية ربما تجعل ولادة مشروعٍ ثوري في الصين شديدة الصعوبة: إذ تتعرض الاشتراكية والشيوعية لنزعٍ رهيبٍ للمصداقية، لأنّ السلطات الصينية قد أدارت البلاد باسمهما حتى اليوم. نزع المصداقية الذي تتعرض له الاشتراكية رهيب، وفقدان نقاط العلام ظاهرٌ وجليّ، كما أنّ هنالك خطراً في أن يدوم الاشمئزاز من السياسة.
في الواقع، ربما يأتي التغيير المرغوب من أي مكانٍ في العالم.
فنزويلا وبوليفيا والإكوادور: عناصر تغيير
لكن إذا كنا نتكلم عن تغييرٍ ثوري، يبدو الجنوب في الوقت الراهن إطاراً أكثر خصوبةً من الشمال. الأكثر ابتكاراً اليوم وربما يقرّبنا من التغيرات الكبيرة هو تجربتا فنزويلا وبوليفيا، ومؤخراً تجربة الإكوادور. بيد أنّه علينا توخي الحذر من جعل هذه التجارب مثاليةً، والاحتفاظ بالروح النقدية، فالانحرافات ممكنة، وخطر عدم المضي إلى إعادة توزيعٍ حقيقية للثروة يتربّص بهذه التجارب الخاضعة لمقاومةٍ شديدة القوة من طرف الرأسماليين في الداخل والخارج، ناهيك عن ضغوط حكومات البلدان الأكثر تصنيعاً وحلفائها في المنطقة (نظاما ألفارو أوريبه في كولومبيا وآلان غارسيا في بيرو). لا تقتصر هذه التجارب الثلاث على دور هوغو شافيز وإيفو مورالس ورافائيل كورييا، على الرغم من الأهمية الشديدة التي يكتسبها أولئك الزعماء الثلاثة الذين لعبوا حتى الآن دوراً إيجابياً في العملية وعبّروا عن حركاتٍ قوية قائمة في بلدانهم. لكنّ إيفو مورالس لم يكن ليحتل منصبه لولا التحشدات الكبيرة في كوشابامبا في نيسان 2000 ضد خصخصة المياه والحركة الأوسع التي قامت في كانون الثاني وشباط 2003 ضد خصخصة الغاز الطبيعي. ولم يكن شافيز ليصل للرئاسة في العام 1998 لولا التحرك الهائل ضد صندوق النقد الدولي في العام 1989 ومقاومة الفنزويليين القوية. ولم يكن رافائيل كورييا سينتخب لولا عشر سنوات من النضال سبقت انتخابه وأدت إلى سقوط أربعة رؤساء من اليمين.
من جانبٍ آخر، طوّرت كوبا التي يعمل عشرون ألف من أطبائها متطوعين في فنزويلا لتقديم الرعاية الصحية المجانية للسكان، طورت مع ذلك البلد ومع بوليفيا علاقات تعاونٍ مثيرة حقاً للاهتمام. إنه شكلٌ من أشكال المقايضة بين البلدان المتمتعة بإمكانياتٍ مختلفة وتاريخٍ مختلف وأنظمة سياسية مختلفة. الإكوادور في خضم الإصلاح الدستوري، وربما يؤدي ذلك إلى تقدّمٍ كبير في الديمقراطية السياسية لهذا البلد. من جانبٍ آخر، أكّد رئيس الإكوادور عدة مرات عن الرغبة في إعادة النظر في تسديد الديون غير الشرعية، وأسس لجنةً للتدقيق الشامل في الدين العام الداخلي والخارجي.
إنّ التجربة الحالية التي تعيشها بلدان الإنديز الثلاثة هذه مثيرةٌ حقاً للاهتمام. والإشارة لكفاح سيمون بوليفار تعيّن الرغبة في وصل التجربة الحالية بالتجارب الثورية السابقة عبر تجذيرها في الواقع الأمريكي اللاتيني.
نحو اشتراكية القرن الواحد والعشرين
ليس ضرورياً الإيمان بانهيار الرأسمالية أو بانتصار مشروعٍ ثوري للنشاط اليومي ومقاومة إنكار العدالة. في التاريخ، ليس هنالك أمرٌ حتمي. لن تنهار الرأسمالية من تلقاء ذاتها. وحتى لو لم تحصل تجربةٌ ثوريةٌ كبيرةٌ جديدة غداً، من المنطقي أن نتخيل بأننا سنمضي نحو تجارب اشتراكية النمط، تزاوج بين الحرية والمساواة. هذه الفكرة لا تحظى بالإجماع في الحركة، في المنتدى الاجتماعي العالمي..:، لكن عديدين هم الذين يعتقدون بأنّه ينبغي إعادة اختراع الاشتراكية في القرن الحادي والعشرين.
إذا ما تجاوزنا تجارب القرن العشرين المضنية وما جرى في الصين أو في كمبوديا بول بوت، ينبغي إعادة الربط مع مشروع القرن التاسع عشر الاشتراكي الانعتاقي وقيم القرن الثامن عشر الثورية وما بعده، إذ إنّ التاريخ يزخر بالكفاح الانعتاقي الذي قام به المضطهدون، من سبارتاكوس إلى نضالات اليوم، مروراً بتوباك أمارو وعصيانات المتحدرين من إفريقيا في البرازيل بقيادة زومبي. علينا أن نأخذ بالاعتبار الجديد الذي يقدمه مختلف الفاعلين والمطالب الجديدة، وإدخال ذلك كله في واقع القرن الحادي والعشرين. اشتراكية القرن الحادي والعشرين هي الاتحاد الحر للمنتجين، هي المساواة بين الرجل والمرأة، هي مشروع أممي، فيدرالية للبلدان والمناطق في إطار كياناتٍ قارية كبيرة تحترم النصوص الأساسية، العهود الدولية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للعام 1948، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للعام 1966، وسلسلة من الأدوات لتعريف الحقوق في الإطار الأممي والعالمي، كتبت واكتسبت أثناء الثورات السابقة. لا يمكن تحقيق هذه الحقوق الأساسية إلا عبر تطبيقٍ خلاّق لنموذج جديد لاشتراكية القرن الحادي والعشرين، إذ ما يزال أمام هذا القرن تسعة عقود من الحياة...