الليبراليّة المعولمة.. والتدهور البيئي.. وتسارع «تسليع» المياه!
مارك ليم
صحافي، مؤلف: ملف المياه. النقص والتلوث والفساد، دار سوي، باريس، 2003.
احتفل المجتمع الدولي برعاية الأمم المتحدة في العشرين من آذار 2008 للمرة الخامسة عشرة بـ«يوم المياه العالمي»..
يعاني 1.1 مليار كائن بشري من عدم حصولهم على المياه؛ كما يؤثر غياب الوسائل الصحية الأساسية على 2.6 مليار شخص. تكمن المفارقة في أنّه بعد أن أثارت المراحل الأولى لتسليع هذه الثروة المشتركة تحشيداتٍ شعبية قوية في القارات الخمس، تتسارع على ما يبدو الحركة العالمية لخصخصة أسواق المياه التي بدأت في الثمانينات.
في البداية، استلهمت «لبرلة» أسواق المياه «النموذج الفرنسي» بشدة: المشاركة بين القطاعين الخاص والعام. وقد تأكّدت بقوة العقيدة التالية: السلطة الحكومية تخسر؛ لابد من اللجوء إلى القطاع الخاص؛ يستند الحكم الرشيد إلى الثلاثي الحديدي ـ نزع القيود، وإلغاء المركزية، والخصخصة. خدمات المياه مكلفة، ويتوجب على المستهلكين دفع هذه الكلفة.
في هذا الإطار، يتتالى توقيع العقود مع كبرى حواضر الجنوب بإيقاعٍ مذهل، لكنّ النزاعات برزت منذ منتصف التسعينات، حين عزم المشغّلون الخواص على جعل مستهلكين جدد يسددون فواتير لا طاقة لهم على تسديدها وليست لديهم ثقافة دفع ثمن ثروةٍ كانت السلطة الحكومية تدعمها بصورة كبيرة حتى ذلك الحين. تعاقبت النضالات في القارات الخمس، وروجّت أولى المنتديات الكبرى المناهضة للعولمة لموضوع رفض «تسليع» المياه.
تطور الخطاب فجر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إذ حلّ الاسترداد الممكن احتماله للتكاليف محل الاسترداد الكامل. أتيحت مكانةٌ للهندسة الاجتماعية والسياسية، وتتالت الالتزامات المروجة إعلامياً على نطاقٍ واسع والصادرة عن المجتمع الدولي أثناء انعقاد المنتديات التي تعاقبت بإيقاعٍ متواصل: قمة الألفية للتنمية في نيويورك عام 2000، قمة الأرض في جوهانسبورغ في العام 2002 («البيت يحترق ونحن ننظر إلى مكانٍ آخر»، هذا ما أعلنه فيها رئيس الجمهورية الفرنسية السيد جاك شيراك...)، القمة العالمية الثالثة للمياه في كيوتو في العام 2003. لقد حذّر تقرير «هيئة المستشارين» كامديسوس الذي نشر في حزيران 2003 من أنّ الأموال اللازمة لتزويد الجميع بالمياه في العام 2025 ينبغي أن تصل إلى مبلغٍ هائل قدره 180 مليار دولار سنوياً. ودعا إلى انخراطٍٍ أكبر للفاعلين المحليين: التعاونيات، الهيئات الأساسية، المنظمات غير الحكومية...، باسم «التمكين» الذي يتمثل في منح سلطة قرارٍ حقيقية للمجتمع المدني. بالترافق مع ذلك، جرى التخطيط لمنح المؤسسات الدولية المالية لقروضٍ جديدة. وظهرت أشكال تنظيم أو إدارة جديدة، تدفع بصورة متزايدة فاعلين خارج الدولة، من الخواص أو من التشاركيين، إلى تبني ترتيباتٍ أكثر فأكثر ابتعاداً عن المركزية.
■ خيبة أمل كبيرة
لم تكن النتائج على مستوى التوقعات. فقد ظهرت المشاركة بين القطاعين العام والخاص على حقيقتها: فرعاً صناعياً يقدم خدماتٍ تفلت إدارتها من عقوبات السوق. اليوم، أصبح 7 إلى 8 بالمائة من أسواق المياه وتكريرها في العالم ملبرلاً، بثرواتٍ متباينة. تظهر الخريطة العالمية للسوق تغايراً كبيراً. لم تسجل إفريقيا، غير القادرة على الدفع عالمياً، إلا بضعة عقود، يضمنها المال العام، في بعض حواضر غربي إفريقيا والمغرب العربي. وقد تعرض المشغلون الخواص لخيبات أملٍ موجعة في الجنة الموعودة الجنوب إفريقية، فتخلوا عنها مرتبكين، وركزوا جهودهم على أوروبا حيث انبثقت أسواق إزالة تلوث هائلة لموردٍ يتدهور باستمرار. وتعتبر العقود التي وقعتها في الصين شركة فيوليا، وغالباً لمدة خمسين عاماً وعشرات مليارات الدولارات، مذهلةً وفق تصورٍ سياسي، افتراضي على الأقل. ماذا سيحل بالصين في العام 2050؟
من بين الأسواق الآخذة في التوسع الكبير، نجد سوق تصدير معالجة المياه الصناعية المستعملة. تمتلك شركة سويز أونديو محفظةً تضم 50 ألف عقدٍ من هذا النمط. هنالك سوقٌ أخرى ناشئة، تعد بالتطور المذهل، هي سوق تحلية مياه البحر. أو سوق إعادة استخدام المياه المالحة في أغراض الصناعة أو الزراعة. وشرقٌ بعيدٌ جديد، تم فتحه بصورة شبه كاملة: الديمقراطيات الشعبية السابقة في شرق أوروبا. وهي سوقٌ كامنة تضم 100 مليون زبون، سيبلغون في أفقٍ مداه 20 عاماً مستوى حياةٍ معادلٍ لمثيله في أوروبا الغربية. هنالك بنى تحتية، قديمةٌ دون شك، لكنها قائمة. تمويلٌ اجتماعي موجودٌ قبل الانضمام (إلى الاتحاد الأوروبي) وبعده، يشبه كل الشبه النافورة العجائبية. و ـ أخيراً وليس آخراً ـ عناصر سياسية يتكون معظمها من أعضاء نافذين سابقين في الأحزاب الشيوعية، مصممين على الاستسلام أمام صافرات ما فوق الليبرالية الأكثر انفلاتاً...
لكن، وعلى الرغم من الالتزامات التي يكررها المجتمع الدولي، فالأموال التي جرى التعهد بتقديمها لمسألة المياه قليلة. الهبة السماوية أقل شأناً من المتوقع. يلقي بعض المحللين نظرةً إلى الماضي، منتقدين دوار النشوة الاقتصادية التي عمت أواخر التسعينات وكان يفترض فيها، على مثال فقاعة الإنترنت، تسريع تسابق كبار مستثمري المياه على النمو عالمياً. وقد تبيّن أنّ العديد من المبادرات كانت كارثية في البلدان التي واجهتها أزمات نقدية، كالأرجنتين، وأدت إلى انسحابهم من العديد من المشاريع ذات المخاطر الكبيرة. إنها مفارقة بالنسبة لكهنة حرية الاستثمار و«المخاطرة»... وقد أجرت تصريحات المدافعين عن لبرلة «أسواق» المياه في المنتدى العالمي الرابع للمياه الذي انعقد في مكسيكو من 16 إلى 22 آذار 2006، أجرت قطيعةً غريبةً مذاك مع الخطابات السائدة منذ نحو عشرة أعوام. فقد أعلنوا فيها بالإجماع أنّ السلطة الحكومية والمال العام هما اللذان يتوجب عليهما القيام بالاستثمارات الضرورية للترويج لقضية تزويد الجميع بالمياه وتنقيتها. إنه أسلوبٌ للاستمرار في التواجد، حين تنظّم تحالفاتٌ تضم الخدمات العامة والمناضلين من أجل المياه نفسها أخيراً للترويج لـ«شراكاتٍ بين القطاعين العام والعام» جديدة، بين الشمال والجنوب وبين الجنوب والجنوب في أرجاء العالم كافة.
■ التبدل المناخي والأزمة البيئية
يؤثر التبدل المناخي على النماذج الجوية وعلى الهطولات المطرية والدورة المائية، وبالتالي على توافر المياه على سطح الأرض ورطوبة التربة وتغذية طبقات المياه الجوفية، ويمكن أن يؤدي إلى زيادة اتساع وتواتر الكوارث الطبيعية المرتبطة بالهطولات المطرية: فيضانات، جفاف، انزلاق تربة، أعاصير وزوابع. وبالتالي، استثارة حدوث موجات كبيرة من «اللاجئين البيئيين». إذا تأكدت التوقعات الحالية، بمناخٍ أكثر اضطراباً في السنوات القادمة، سوف يصبح مردود الزراعات مهدداً في البلدان المتطورة والنامية على السواء، وسيتعرض نحو ثلاثة ملايين شخص لنقصٍ في المياه.
في مناطق واسعة من أوروبا الشرقية وغربي روسيا ووسط كندا وكاليفورنيا، أصبحت المناسيب المرتفعة من مجاري المياه تسجل في الشتاء لأنّ نسبة الأمطار بالمقارنة مع الثلج أكبر، وتصل مياه السيول إلى الأنهار بصورةٍ أسرع. في أحواض نهر النيجر وبحيرة تشاد والسنغال، التي تمثل جزءاً من أحواض أكبر سفوح إفريقيا، انخفضت الكمية الكلية للمياه المتوافرة بنسبة 40 إلى 60 بالمائة.
إذا تعممت التغيرات الجذرية في دورة المياه، لن تعود الميول الملاحظة سابقاً قادرةً على تقديم نماذج يمكن الاعتماد عليها لتخطيط إدارة الموارد المائية في المستقبل، وسيتوجب تطبيق نماذج جديدة لاستباق حالات الفيضان والجفاف، وتحديد كمية الاحتياطيات المائية وتقرير توزيع هذا المورد بين الاستخدامات المنزلية والصناعية والزراعية. ستكون الانعكاسات شديدة إذا ما أخذنا بالاعتبار أنّ الاستثمار العالمي السنوي في مجال بنى المياه التحتية يمثّل 500 مليار دولار، وأنّه يتحقق وفق الفرضية التي عفا عليها الزمن وتنص على أنّ دورة الماء تنوس في الحدود الضيقة نسبياً الملاحظة في الماضي.
■ هروبٌ تقني إلى الأمام
تصدياً لتحدي استنزاف الموارد، وبانعدام التشكيك في نماذج التنمية المؤدية إلى استقطاعاتٍ مفرطة وتبذيرٍ وتلوث، يصبح مغرياً الهروب التقني إلى الأمام، وهو هروبٌ مثقلٌ بالمخاطر ويولّد تفاوتاتٍ جديدة.
أكثر من ثلث أراضي الكوكب، القاحلة أو نصف القاحلة، تفتقر إلى الماء. وتسمح آفاق التطور السكاني بالقول إنّ نحو 40 بالمائة من سكان الكوكب سيعانون في العام 2050 من الشدّة المائية التي تمثل عائقاً كبيراً أمام أية خطةٍ تنموية. وسيؤدي ذلك إلى غياب الأمن الغذائي وخسائر اقتصادية وتلوث متزايد باستمرار واحتمال نشوب نزاعات.
في مواجهة هذه التحديات، تظهر منذ بضع سنوات فكرة نشر «إدارة حكيمة» جديدة لهذا المورد، تستند إلى الإجابات التقنية الابتكارية. مشاريع كبرى لنقل المياه على مستوى بلد أو شبه قارة، في ليبيا أو كندا أو إسبانيا، تحلية مياه البحار، إعادة استخدام المياه المالحة لاستخدامات زراعية أو صناعية، لا بل للتغذية البشرية، وكذلك تجنيد مصادر أخرى عبر إعادة التغذية الصناعية للأحواض المائية، كلها أصبحت يروج لها بقوة بوصفها حلولاً مناسبة لأزمة المياه.
هكذا، ستسمح تحلية مياه البحار بالحصول على هذا المورد بكميات لا حدود لها. وإذا علمنا بأنّ أكثر من 40 بالمائة من سكان العالم يعيشون على بعدٍ يقل عن 100 كيلومتر عن البحر، وبأنّ 42 من أصل 70 مدينة يعيش فيها أكثر من مليون نسمة لا يحصلون بصورةٍ مباشرة على موارد إضافية من المياه العذبة تقع على السواحل، يجري تقديم تحلية المياه عبر الحل المعكوس بوصفه حلاً مناسباً للمستقبل مع الطاقات المتجددة، كطاقة الرياح.
تتطلب هذه التقنيات كميات كبيرة من الطاقة، لذا فلا تستخدمها حالياً إلا إمارات الخليج وأستراليا وإسبانيا والجزائر والصين والولايات المتحدة. لكن عدد وحدات التحلية في العالم قارب اليوم 15 ألف وحدة، ويمكن مضاعفة القدرة على الإنتاج مرتين في السنوات العشر القادمة. تبقى الفاتورة البيئية لهذه التقنية الجديدة: فلإنتاج ليتر من الماء المحلى، يرمى في البحر ليتر من الماء المملح، يؤثر على توازن الأوساط المائية.
كذلك، يجمع اليوم في العالم 165 مليار متر مكعب من المياه المالحة وتعالج في محطات تنقية، ثم ترمى في الوسط الطبيعي، ما يؤدي إلى اقتراح استخدام هذا الماء كمورد بديل. سيسمح تطوير تقنيات متقدمة، ولاسيما تطبيق إجراءات تستخدم أغشية للترشيح الفائق، بإيجاد مياه معالجة، تسمح نوعيتها بإعادة استخدامها لغاياتٍ زراعية، أو للتسلية، تستهلك مزيداً من الماء في البلدان المتطورة. وهو إجراءٌ سينقص الاقتطاعات المباشرة من هذا المورد، ويوفره للاستخدام البشري.
تؤكد الشركات المسيطرة على هذه التقنيات بأنّه أصبح ممكناً إنتاج ماءٍ صالح تماماً للشرب من مياه مالحة، وبأنّه أصبح ممكناً العمل في دارةٍ شبه مغلقة لمواجهة الطلب المتزايد، علاوةً على ذلك، فهذه التقنية أقل كلفةً من التحلية. سكان سنغافورة وعاصمة ناميبيا يشربون جزئياً مياهاً أعيد تدويرها. وفي أستراليا، أرغمت السلطات على طلب رأي السكان عبر الاستفتاء قبل اللجوء إلى المياه المعاد تدويرها.
■ تكاليف باهظة جداً
يبدو كأنّ حدود هذا الدوار التقني معدومة. فقد أعلن السيد مارك شانون، مدير مركز المعدات المتقدمة لتنقية المياه في جامعة إيلينويس في الولايات المتحدة لوكالة فرانس برس في الثامن عشر من آذار 2008 بأنّه: «لابد من تنقية الماء، حتى العذب منه، إذ يحتوي الماء على العديد من المكونات السامة بكميات قليلة، لكنّ المعالجات الكيميائية باهظة الكلفة وتتسبب في المشكلات»، وأشار إلى أنّ اللجوء إلى المواد البالغة الصغر، التي يبلغ حجم جزيئاتها أجزاء من المليون من الميليمتر، وكذلك اللجوء إلى الأشعة فوق البنفسجية لتحويل المواد السمية وربطها، سيسمح في المستقبل بتحسين معالجة المياه...
يعبّر مجموع هذه الابتكارات كذلك عن خيارات سياسية وبيئية، من المفترض أن تثير نقاشاً واسعاً لم يبدأ بعد. فالتدهور المتسارع لهذا المورد هو الذي يشرعن هذه المقاربة الجديدة لمسألة المياه. ومن المتوقع وجود خطر متزايد في الحصول السلعي على المورد نفسه، ولكافة الخدمات التي تضمن استخدامه على أفضل نحو لتلبية الحاجات في مجال الطاقة والزراعة، وحاجات البشر بطبيعة الحال.
هنالك عاملٌ جديد يفاقم التوترات حول توافر المورد ونوعيته. ففي إطار «ما بعد النفط»، تحدد الولايات المتحدة وأوروبا والعديد من الدول الناشئة هدفاً لها، هو الاستخدام المتزايد للوقود الناتج عن المنتجات الزراعية من أجل النقل على الطرقات. إنّ هذا «الاقتصاد الجديد» يعيد رسم خريطة الزراعة العالمية ويخلط مشهد المنتجات والمبادلات في مجال التجارة والزراعة والطاقة، وسوف يثقل بدوره على تخصيص الموارد المائية، ويساهم في تدهور نوعيتها.
■ تفاوتات جديدة
يمكن إذاً أن يستند التنظيم الجديد للحاجات إلى نشر هذه التقنيات الجديدة، التي لا تؤدي للأسف إلى أية إعادة نظر في الممارسات في مجال الطاقة والزراعة والصناعة والاقتصاد، وهي أساس التدهور المتسارع للموارد المائية على الكوكب بمجمله.
من جانبٍ آخر، كيف بالإمكان تخيل تمكّن مليارات البشر الذين يعيشون بأقل من دولار يومياً من الاستفادة غداً من منافع تحلية مياه البحر أو إعادة استخدام المياه المالحة؟ في العديد من البلدان الفقيرة، يحبّذ علناً استخدام المياه المعبأة من أجل الشرب، ولا يستفيد منها إلا النخب القادرة على شرائها، على حساب حصول الفقراء على المياه.
يستند النشر الصناعي لهذه «الإدارة الحكيمة» الجديدة على مستوى الكوكب إلى الفرض المكثف لمساراتٍ جديدة ولتقنياتٍ جديدة، ولاسيما التقنيات «الغشائية» (الترشيح الفائق والمكروي، الحلول المعكوس)، تحميها معايير وبراءات اختراع تضمن حصول الشركات متعددة القومية على العوائد. وستحل هذه التقنيات، بدعم المؤسسات المالية الدولية وبلدان الشمال، محل الممارسات التقليدية لإدارة المياه، إرث التاريخ، الذي تملكه المجتمعات البشرية في البلدان الفقيرة وتسيطر عليه.