أزمات الاتحاد الأوروبي..   بنيوية أم مرحلية؟

أزمات الاتحاد الأوروبي.. بنيوية أم مرحلية؟

خفت بريق الحماس المستمد من مرحلة بناء الاتحاد الأوروبي، خصوصاً بعد أن أصبحت كل من ألمانيا وفرنسا مستفيدتان رئيسيتان من مشروع الاتحاد الأوروبي الذي أصبح، بفعل عوامل عديدة، واضحاً من حيث طبيعته وجوهره وحدوده أكثر من أي وقت مضى.

 

يناقض نظام اعتماد القرارات السياسية داخل الاتحاد الأوروبي- حيث لا يتم انتخاب المفوضين الأوروبيين عن طريق التصويت المباشر- المعايير والقيم الديمقراطية المتغنى بها، وهذه الحقيقة، لوحدها، تقوض الأسس التي تقوم عليها الدول الوطنية، وتعزز العامل البيروقراطي داخل الاتحاد الأوروبي.

يولد هذا النوع من نظم اتخاذ القرارات انعدام الثقة العامة لدى الدول التي لا تملك سلطة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ضعف سيادة الدول الوطنية يقلل، بشكل ملحوظ، من دورها كلاعب في مجال السياسة الدولية. حيث كانت سابقاً كل من ألمانيا ، وفرنسا، وإيطاليا ودول أخرى، تسعى للوصول إلى الوضع الذي تتمتع به دول المركز، حتى وإن كان ذلك يجري دائماً بالاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية عبر الناتو، إلا أن هذا السعي انخفض اليوم مع انخفاض إمكانيات دول مثل هذه.

أزمة السياسة العامة للدمج الأوروبي

يقف في وجه مصالح وطموحات بعض الدول، العديد من التحديات، لا تقتصر على المنافسة الطبيعية من الخارج، بل تتعداها أيضاً إلى التخريب الداخلي، وهو ما يعبر عنه بالحصار المفروض على المبادرات المختلفة، فعلى سبيل المثال، لم تدعم ألمانيا تطوير «الاتحاد من أجل المتوسط» الذي كان مدعوماً من فرنسا، ومثل هذه الأمور أظهرت الاتحاد الأوروبي كقوة صغيرة. في العصور الحديثة، كانت تعتقد أوروبا أنها تستطيع تفجير قوة قادرة على التحكم بالعالم، أما اليوم، فلا يمكن اعتبارها كياناً متوازناً في السياسة العالمية.

أزمة الاقتصاد

إن خطر خروج اليونان من منطقة اليورو، وكذلك الجدل الدائر حول الاحتمالات المفتوحة، يدل على إفلاس السياسة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، رغم سعي الليبراليين الجدد (أمثال جورج سوروس، الذي يقدم المشورة للسياسيين الأوروبيين باستمرار بشأن المسائل الاقتصادية)، ليبقى الاتحاد الاوروبي متمنعاً عن التحرير الكامل، وغير قادر على العودة إلى سياسة عقلانية لإدارة القطاع المصرفي.

وهناك تهديد بانسحاب الاتحاد الأوروبي من اتفاق الشراكة عبر المحيط الأطلسي للتجارة والاستثمارات التي تلح عليها واشنطن، التي يعتبر الجمهور الأوروبي هو الهدف الحاسم من هذه المبادرة الأمريكية، وقد لاحظ الباحثون أنه وفقاً للمعايير الدولية، وقوانين الاتحاد الأوروبي، فإن المفاوضات تجري وراء الأبواب المغلقة، بضغط من واشنطن، ومخالفة لمعايير (الشفافية) الأوروبية، وعلاوة على ذلك، كانت هناك محاولات عديدة من الولايات المتحدة لتقويض القواعد الأوروبية لأمن البيانات والمعلومات، حيث تشهد تقارير منظمات المستهلكين الأوروبية والأمريكية على هذه الحقيقة.

وبتحليل مؤشرات الاقتصاد الكلي في الاتحاد الأوروبي، حسب المراقب الألماني، إريك زويسي، واستنتاجاته بشأن العواقب المترتبة على انضمام الاتحاد الأوروبي إلى «الشراكة عبر الأطلسي»، فإنه: خلال أول 10 سنوات من الاتفاق ستنتج خسائر في الصادرات الأوروبية، وستعاني البلدان الأوروبية من خسائر في الناتج المحلي الإجمالي، كالتالي: شمال أوروبا 2.07 %، فرنسا 1.9 %، ألمانيا 1.14 %، بريطانيا 0.95 %.

كما ستسبب الاتفاقية خسارة المزيد من الوظائف، إذ سيفقد 600 ألف موظف أعمالهم، وستتركز الخسائر الكبرى في شمال أوروبا التي ستفقد 223 ألف وظيفة، و134 ألف وظيفة في ألمانيا، و130 ألف وظيفة في فرنسا، و90 ألف وظيفة في جنوب أوروبا. وستسبب الاتفاقية انعدام الاستقرار المالي وتراكم الاختلالات، وانخفاض دخل السكان، وانخفاض معدلات الاستهلاك والمبيعات، وسيعم عدم استقرار الاقتصاد الكلي في هذا النموذج من التنمية الاقتصادية، وهو ما أظهرته الأزمة المالية الأخيرة.

أزمة الثقافة الأوروبية

عند تشكيل الفضاء العام للاتحاد الأوروبي، اضطر مشكلوه إلى إنشاء برامج ثقافية خاصة، للتأكيد على (وحدة) دول المجتمع، وبدلاً من مناشدة الحقائق التاريخية والتقاليد الأوروبية، جرى التأكيد على (قيم التعددية الثقافية).

وأثارت بروكسل موضوع خلق نموذج (ما بعد الحداثة)، المعروف باسم (التعددية الثقافية)، وعلى الرغم من إعلان قادة ألمانيا وفرنسا رسمياً تحطم هذا النموذج قبل بضع سنوات، إلا أن أثره على أزمة الثقافة الأوروبية أعمق من المتداول، إذ يمكن للعواقب المحتملة أن تكون أكثر خطورة، فعدا عن النفاق تحت راية قضية التسامح، يصل الأمر إلى إضعاف الذاكرة التاريخية والاستعاضة عنها بثقافة بديلة مبتذلة، لكن أيضاً يمتد الموضوع ليطال نظام التعليم الذي أضاف له (الطابع المؤسساتي) تدهوراً فكرياً كارثياً. وأخيراً، يمكن أن يؤدي هذا النموذج الثقافي إلى التجرد من الإنسانية، وتغيير الصورة الأنثروبولوجية في أوروبا، وهي واحدة من الحقائق المؤسفة لهذه النموذج، مثل اعتماد قانون زواج مثليي الجنس الذي يدل على الأزمة المقبلة. 

الأزمة السياسية- العسكرية

كان للصراع على أوكرانيا، والأهداف الوهمية (كشيطنة روسيا) التأثير الأساسي على إعادة هيكلة القوات المسلحة للاتحاد الأوروبي، حيث قامت الولايات المتحدة باستثمار ذلك عبر اتخاذ خطط هيمنة في بلدان الاتحاد الأوروبي، إذ أصبح الناتو رهينة لتعليمات واشنطن، بعد أن وضعت عملية طويلة الأمد لحل حلف شمال الأطلسي.

ونلاحظ أن مختلف بعثات الاتحاد الأوروبي، المدنية والعسكرية، تعمل الآن في الدول التي تقع بعيداً عن حدود الاتحاد الأوروبي: أفغانستان وجيبوتي والصومال وجزر سيشيل وتنزانيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ومالي والنيجر وجمهورية أفريقيا الوسطى، فلسطين، كوسوفو والبوسنة وجورجيا وأوكرانيا.

الأزمة المقبلة- مشكلة اللاجئين

ليس التدفق الهائل للاجئين والمهاجرين إلى الاتحاد الأوروبي سوى نتيجة لأفعال الاتحاد الأوروبي السابقة في بلدان آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. حيث يشكل الأفارقة والآسيويين (الجيل الثاني والثالث من المستعمرات السابقة) المستوعبون في أوروبا سابقاً، حلقة ربط بين اللاجئين الجدد، وبين سكان أوروبا، إلا أن مجمل القوانين المعتمدة، لن تسمح بحل هكذا قضايا إنسانية مما يؤدي، وسيؤدي إلى حالات عبثية ومأساوية.

أشارت بروكسل مؤخراً إلى هذا الأمر، عندما عرضت الملف الساخن للسفن التي تنقل المهاجرين غير الشرعيين، وصرحت بأن الاكتفاء بالمهمات الإنسانية وشعارات التسامح ليست أكثر من سياسة منافقة وكيل بمكيالين، وتشير استطلاعات الرأي في دول الاتحاد الأوروبي أن السكان المحليين ضد تدفق جديد من المهاجرين غير الشرعيين من بلدان أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط بشكل قاطع، وفي الوقت نفسه، فإن المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي يؤكدان على ضرورة تحديد أعداد للمهاجرين القادمين، بمواجهة موجات مستمرة يبدو أنها ستضرب بلدان أوروبا الشرقية أولاً، لتساهم بتأثيرات سلبية على التركيبة السكانية هناك، فتموضع اللاجئين المقصود في مراكز المخيمات في منطقة أوروبا الشرقية، حيث المخيمات النازية دمرت سكان تلك المناطق خلال الحرب العالمية الثانية، هو أمر ذو دلالة.

الطاقة: أزمة استراتيجية

أثرت العقوبات ضد روسيا بشكل مباشر على سياسة الطاقة في الاتحاد الأوروبي، وهذا  يتناقض مباشرة مع المصالح الوطنية لعدد من الدول التي لديها نقص في موارد الطاقة الخاصة بها، وتعول على مساعدة من روسيا، التي يمكن أن تصل الفائدة الاقتصادية من نقل الغاز منها، ومن الاستهلاك المباشر إلى مستويات قصوى، لكن عدداً من البلدان مضطرة أن تعاني من التحذيرات المهينة للمفوضية الأوروبية.

ورغم التصريحات الرسمية التي تفصح عن الحاجة لموقف موحد، والعمل لما فيه الخير لجميع أعضاء الاتحاد الأوروبي، إلا أن ما يحدث شيء مختلف تماماً. وقد جاء في تقرير المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمن الدولي، المكرس لسياسة الطاقة: (الخطابات التي تقول إن الاتحاد قوة يمكن أن تفسر عموماً على أنها من أعراض أزمة الاندماج في الاتحاد الأوروبي).

الأزمة الفكرية

العديد من الأزمات السابقة مرتبط بالفجوة الفكرية لدى السياسيين الأوروبيين، وتماديهم في الاندماج والالتزام في الإيديولوجية والمخططات الليبرالية الجديدة بأشكال ظهورها المختلفة (سواء اليسار التروتسكي أو العسكر اليميني)، وذلك ما لا يسمح بوجود نظرة موضوعية على الجوانب العضوية التي تفعل فعلها في أزمات الاتحاد الأوروبي، ما يصعب من تقديرها والتوقع بنتائجها.