الخيار الألماني: أمريكا أم روسيا؟! (1/2)
لا يتوقف السفير الأمريكي، "جون إيمرسون"، عن الابتسام. وفي مساء يوم الجمعة، الرابع من تموز، عيد الاستقلال، صافح سفير الولايات المتحدة ضيوفه على السجادة الحمراء في حفل استقبال السفارة الذي أقيم في مطار "تمبلهوف" السابق في برلين، والذي تم تحويله إلى حديقة عامة. رحب إيمرسون بضيوفه ببشاشة دبلوماسي متمرن. واستقبل صفاً لا نهاية له من رجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين الألمان والمشاهير، ومن الممكن أنه بدا متعرقاً، إلا أن ابتسامته استمرت دون انقطاع، كما لو أنه ينقل رسالة مفادها أن كل شيء لا يزال بخير في العالم.
ترجمة: جيهان الذياب
يبدو هذا المشهد مألوفاً في اللقاءات الأخيرة بين المسؤولين الأمريكيين والألمان. ولكن وراء الواجهة المثالية، كانت العلاقات متصدعة. وحتى عندما كان العمال يزينون ميدان تمبلهوف بشعارات وأعلام صغيرة يوم الجمعة الماضي، ظهر تقرير عن جولات المحادثات في العاصمة الألمانية والتي يمكن أن تقود العلاقات بين واشنطن وبرلين إلى أدنى مستوى جديد.
وأثناء الاستجواب، قال موظف في وكالة الاستخبارات الألمانية لسلطات بلاده، أنه باع وثائق سرية للأمريكيين. وبالنظر إلى أنه تم العثور على تقنية التشفير الخاصة بها خلال مداهمة شقته، يبدو من المستبعد جداً أن بيع تلك المعلومات السرية كانت فكرته.أخذت فضيحة التجسس بعداً جديداً، هذا الأربعاء، عندما داهم المحققون في مكتب الشرطة الجنائية الاتحادية منزل ومكاتب موظف بوزارة الدفاع، والتي يشتبه في تجسس مسؤولين فيها أيضاً لحساب الأمريكيين.
هذه التطورات ليست سوى أحدث الصراعات التي حصلت في العلاقة بين ألمانيا والولايات المتحدة التي عانت في السنوات الأخيرة. وتخلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بالفعل عن أملها في أن تعود الولايات المتحدة إلى رشدها وتكبح جماح وكالات استخباراتها. خلال زيارة ميركل إلى واشنطن، لم يكن الرئيس الأمريكي باراك أوباما على استعداد لضمان أي اتفاق حول عدم تجسس على ألمانيا ليمنحها أي قدر من الأمن.
ميركل تخشى تزايد المشاعر المعادية لأمريكا!
تتوقع المستشارة، على كل حال، أن يمتنع الأمريكيون على الأقل عن إقحامها في أي حوادث أخرى محرجة، فليس لديها أية مصلحة في استمرار ازدياد المشاعر المعادية للولايات المتحدة في ألمانيا، وهو تطور من شأنه، في نهاية المطاف، أن لا يدع لها خياراً سوى أن تنأى بنفسها عن الأمريكيين مرة أخرى. ولكن هذه النقطة قد تم بالفعل التوصل إليها.
لم تنه وكالة الاستخبارات الألمانية التحقيق في فضيحة التجسس، وذلك حتى نهاية الأسبوع الماضي. ولكن إذا تبين أن القصة صحيحة، فذلك يعني أن الأمريكيين دفعوا لجاسوسهم لينسخ الوثائق لهم، وكان بعضها يدور حول اللجنة البرلمانية الألمانية التي شكلت للتحقيق في قضية نشاطات "وكالة الأمن القومي الأمريكية" في ألمانيا، وهذا يمثل مستوى جديداً من الجرأة.
وكانت التقارير الأولية وحدها كافية لإثارة غضب أعضاء رئيسيين في الحكومة الإئتلافية في ألمانيا، التي تتألف من "الحزب الديمقراطي المسيحي" بزعامة ميركل ويسار الوسط "الديمقراطي الاشتراكي"، لدرجة أن البعض يشعر الآن أن وكالة الاستخبارات الأمريكية قادرة على القيام بأي شيء.
قال توماس أوبرمان، الزعيم البرلماني للحزب "الديمقراطي الاشتراكي": "إذا تم إثبات أن النشاطات التجسسية ضد وكالة الاستخبارات الألمانية تستهدف أيضاً عمل لجنة التحقيق في قضية وكالة الأمن القومي، سيكون ذلك اعتداء غير مسبوق على البرلمان وعلى مؤسساتنا الديمقراطية". وبحلول يوم الأربعاء من هذا الأسبوع، وبعد شكوك جديدة بالتجسس على وزارة الدفاع، أشار ستيفن سيبيرت، المتحدث باسم ميركل، بأن العلاقات الألمانيةـ الأمريكية بلغت الحضيض وتحدث لأول مرة عن "خلافات عميقة في الرأي" بين برلين وواشنطن.
استدعت وزارة الخارجية الألمانية السفير ايمرسون بعد ظهر يوم الجمعة، وذلك قبل أن تبدأ احتفالات الرابع من تموز. وصدرت تعليمات للموظفين في المستشارية الألمانية لحصر اتصالاتهم مع الولايات المتحدة على المسائل الأساسية فقط. حتى أن بعض أفراد الحكومة الألمانية وضعوا بعين الاعتبار الرد بطرد ديبلوماسي أمريكي. وبعد ما يقرب من أسبوع، يوم الخميس، طلبت الحكومة في برلين من رئيس محطة وكالة المخابرات المركزية في ألمانيا مغادرة البلاد. وتبدو هذه الخطوة أقل أهمية من عملية الطرد الرسمية. لكنها لا تزال بمثابة ضربة دبلوماسية شديدة.
هل علقت ألمانيا بين الشرق والغرب؟
بالطبع، هذا ليس حقاً ما تريده المستشارة. فهي تفضل أن يبقى الألمان راسخي الجذور في التحالف الغربي ويستمروا كموالين لشركائهم الأمريكيين. لكنها لاحظت أيضاً مدى المشاعر المعادية للولايات المتحدة بين الألمان، التي أثارتها فضيحة التجسس في وكالة الأمن القومي. كلفت مؤسسة كوربر مؤخراً بدراسة عن مواقف الألمان تجاه السياسة الخارجية الألمانية. وسئل المشاركون، مع أي بلد يجب أن تتعاون ألمانيا في المستقبل؟ في ما يشبه المباراة بين الشرق والغرب، وسمى حوالي 56% الولايات المتحدة، بينما سمى 53 % منهم روسيا.
هنا يكمن التوتر الأعمق، فمن ناحية، نرى خيبة أمل الألمان بسبب الأمريكيين وأنشطة المراقبة المستمرة لديهم. وفي الوقت نفسه، ظهر لديهم مستوىً مذهلاً من التعاطف مع الروس ورئيسهم، فلاديمير بوتين، في أزمة أوكرانيا. وهذا يثير تساؤلاً أساسياً عن الهوية الوطنية الألمانية. ولكن الألمان سيقررون، على المدى الطويل، أي جانب يفضلون.
خلال 25 عاماً منذ سقوط جدار برلين، يبدو أنه قد تم القضاء على التناقض بين الشرق والغرب، والاستقطاب بين الولايات المتحدة وروسيا، وبدت القضية ليست بذات أهمية. ولم يكن على ألمانيا أن تختار بين الجانبين بسبب عدم وجود خط فاصل حقيقي. لكن الأزمة الأوكرانية وفضيحة وكالة الأمن القومي وضعتا حداً لهذه المرحلة المريحة، أما الآن، بعد أن اندلع العداء مجدداً بين الغرب وروسيا، لم يعد من الممكن أن تتجنب ألمانيا مسألة أي جانب تدعم.
ووفقاً لاستطلاع أجرته "شبيغل"، يشعر 57% من الألمان أن بلادهم ينبغي أن تصبح أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية. وتثار أيضاً تساؤلات مربكة، من ضمنها سؤال يتعلق بكون علاقة برلين الوثيقة بالغرب ليست سوى ظاهرة انتقالية.
بحر تغيير العلاقات
كانت مرحلة رئاسة جورج بوش نقطة تحول في العلاقات الألمانية مع أمريكا. في حينها عارض المستشار الألماني "غيرهارد شرودر" علناً قرار البيت الأبيض غزو العراق قبل اثني عشر عاماً. وقد شكل ذلك بحراً من التغيير في نمط العلاقة بين البلدين. برر جورج بوش حربه على العراق بكذبة ورسخ صورة القوة العظمى التي تعتقد أنه ليس من المطلوب أن تلتزم بالقواعد والقوانين.
وضع "ايمرسون" ليس سهلاً. وكان على سلفه التعامل مع فضيحة ويكيليكس، حين نقلت كابلات السفارة الأمريكية أوصافاً مثيرة للساسة الكبار الألمان وتم تسريبها للجمهور. لم تهدأ هذه الإثارة إلا عندما تم الكشف عن أن وكالة الأمن القومي تتنصت على هاتف ميركل المحمول. في ذلك الوقت، عين إيمرسون في منصبه في برلين لبضعة أسابيع فقط.
لم يكن لدى "ايمرسون" أي أوهام حول المزاج العام في ألمانيا، خلال زيارة قام بها في أواخر شهر مايو. فمعاداة أمريكا ليست ظاهرة جديدة، فالعديد من هؤلاء الذين تظاهروا ضد حرب فييتنام في أواخر الستينيات أو ضد سياسة تسليح الناتو في السبعينيات، لم يدفعهم لذلك رغبتهم في السلام فقط.
حتى في ذلك الوقت، قرر أعضاء في اليسار الألماني إرسال رسالة معارضة لإمبراطورية الشر عبر المحيط الأطلسي. وغنى الموسيقار الألماني هربرت غونماير "أخشى من نزواتك وطموحك، أمريكا، يا أمريكا"، في ألبومه بوخوم الذي أطلقه في العام 1984. أثرت كلماته على مزاج جيل كامل.
هذه المرة، هناك ما هو أكثر من الاستياء المعتاد في اللعبة، في ضوء كل ما حدث في السنوات الأخيرة: حرب العراق وغوانتانامو، واستخدام الطائرات بدون طيار لعمليات الإعدام المستهدفة، والأزمة المالية، وكالة الأمن القومي والمخاوف من محرك البحث جوجل. يشعرالألمان بأن لديهم كل ما يدعو إلى عدم الثقة في الولايات المتحدة، وهي الصديق السابق الذين يرى كثيرون فيه الآن نذير الشؤم والشر.
المصدر: عن مجلة دير شبيغل الألمانية
تعقيب من المحرر:
تدلل هذه المقالة المنشورة في أهم مجلة ألمانية (دير شبيغل) في 10 تموز 2014، على نقطة استراتيجية هامة. فمع تبلور ميزان دولي جديد يتسم بالانقسام المتصاعد بين محورين: الأول هو المحور الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والثاني: بزعامة روسيا والصين وحلفائهم، بدأت أحوال بعض الدول المحسوبة تاريخياً على المحور الغربي بالتأزم كالوضع الألماني الذي انحاز للغرب خلال الـ50 عاماً الماضية. مايعني عدم استقرار التوازن الدولي الجديد بعد، مع احتمال حدوث تطورات نوعية على هذا التوازن.