على وقعِ المتغيرات الدولية... ألمانيا تعيد التفكير بهويتها..؟
يشعر الكثير من الألمان بارتباطهم الخاص مع روسيا. وهذا يجعل الأزمة في أوكرانيا خطرة بشكل خاص على برلين، لأنه يثير أسئلة هامة حول طبيعة الهوية الألمانية. هل نحن متجذرون بعمق في الغرب، كما يعتقد الكثيرون؟
ترجمة: جيهان الذياب
حافظ الألمان والروس على علاقة خاصة، وصولاً إلى يومنا هذا. إذ ما من بلد آخر أو أيّ شعب آخر يرتبط مع الألمان بمثل هذه العلاقة العاطفية والمتناقضة، مثل روسيا. يتغلغل هذا الارتباط في أعماق تاريخ العائلة الألماني، الذي شكلته حربان عالميتان ووجود ألمانيا الشرقية على مدى 40 عاماً. ولا تزال الأسر الألمانية تتداول القصص عن قسوة الروس، المختلطة بالحنان وطيبة القلب. نحن نزدري بدائية الروس، بينما نعتز بثقافتهم وروحهم الروسية.
«لعبة شدّ الحبل» بين العواطف
علاقتنا مع الروس متناقضة كما هو تصورنا عن شخصياتهم. «عندما يتعلق الأمر بالعلاقات بين الألمان والروس، هناك لعبة شد الحبل بين العاطفة العميقة تجاههم والنفور التام»، كما يقول الروائي الألماني، إنغو شولز، مؤلف «قصص بسيطة»، وهي الرواية التي استحسنها النقاد، وتتكلم عن الهوية في ألمانيا الشرقية وعن إعادة توحيد ألمانيا. الروس يخيفوننا، ولكننا نراهم أيضاً كشعب مضياف. لديهم أراضٍ شاسعة، كما لديهم الروح والثقافة العميقة، فبلدهم هو بلد تشايكوفسكي وتولستوي.
بالتالي، لا عجب أن الجدل حول دور روسيا في الأزمة الأوكرانية استقطب الاهتمام أكثر من أي قضية أخرى في السياسة الألمانية الحالية. بالنسبة لألمانيا، فإن الأزمة الأوكرانية ليست بعض المشاكل البعيدة مثل سورية أو العراق – فهي في عمق وجوهر مسألة الهوية الألمانية. أين نقف عندما يتعلق الأمر بروسيا؟ ويرتبط ذلك بالسؤال: من نحن كألمان؟ استعاد هذا السؤال أهميته في ألمانيا مع تنامي خطر الصراع بين الشرق والغرب الجديد، وقد يجبرنا، في نهاية المطاف، أن نعيد تحديد موقعنا، أو على أقل تقدير، نؤكد موقفنا في الغرب.
في الأسابيع الأخيرة، كثرت النقاشات الحادة والانفعالية بين الذين يميلون للتعاطف مع روسيا وأصحاب المواقف الأكثر تشدداً ضد موسكو. كانت المواقف متطرفة جداً، ويندلع نقاش تلو الآخر. وكلما ارتفعت الأصوات، من جهة، التي أدانت تصرفات روسيا في أوكرانيا، ارتفعت أكثر الأصوات التي تنادي بحوار أعمق وأكثر فهماً لروسيا المحاصرة. وكلما ازداد عدد الأصوات التي تهاجم روسيا لانتهاكها القانون الدولي في شبه جزيرة القرم، ازدادت أصوات الألمان المنادية ضد الغرب.
الرومانسية والحرب
يقول بيبيروسكي: «كان الذين عانوا أكثر من الألمان هم الأقلّ كراهية لهم» وكأن قضية الذنب تبخرت في أول فورة انتقام في نهاية الحرب. ويعتقد أنها تبددت، كحد أقصى، بعد عودة آخر دفعة من سجناء الحرب إلى ألمانيا. ويقول شولز، الذي قضى عدة أشهر في سان بطرسبورغ خلال التسعينيات: «روى الروس قصصاً تجمد الدم في العروق ولكنهم لم يوجهوا الاتهام لنا».
ورغم أن السياسيين الألمان استغلوا المخاوف من روسيا لسنوات عديدة في فترة ما بعد الحرب، ظلت الحرب تربط بين الألمان والروس اليوم. يقول هارفريد مونكلير، أستاذ في النظريات السياسية في جامعة هومبولت، تتميز علاقتنا بـ «حميمية العلاقة التي تنشأ بعد حربين». ويصف الحرب بأنها تجربة جمعت الألمان والروس. ويجادل بأن الصراع خلق مجتمعاً حيوياً أقوى من أيام السلم، وبنتيجة الحرب، تعلم الألمان شيئا آخر، أن لا يهاجموا روسيا ثانية.
دورٌ خاص لألمانيا؟
يقول هنريك أغسطس ينكلر: إنّ ألمانيا قد وصلت الآن إلى نهاية «رحلة طويلة إلى الغرب». ولكن مع الأزمة في أوكرانيا، والتهديد بإحياء الصراع بين الشرق والغرب، تعود للظهور فجأة الأسئلة القديمة حول دور خاص لألمانيا. بالطبع، لا أحد يضع أمر عضويتنا في الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي موضع السؤال، ولكن روابط ألمانيا الخاصة مع روسيا، التي تميزنا عن بلدان أوروبا الغربية الأخرى، سيكون لها تأثير مبرر على سياساتنا.
قال وينكلر لصحيفة «الفرانكفورتر» الألمانية: «لقد استنفذت أيديولوجية اتخاذ موقف الوسط نفسها». وذلك في مقابلة أجرتها معه في عام 2011. و أضاف: «كان من السهل أن نقول ذلك في الوقت الذي بدا أن التنافس بين الشرق والغرب قد اختفى، ولكن ذلك لم يعد ممكنا في الوقت الحاضر».
لا يزال الغرب قادراً على تحقيق شيء مقارب لموقف توافقي ، إذا تكلم الاتحاد الاوروبي بصوت واحد. ولكن إذا كان الصراع يتصاعد مع روسيا، ووجب اتخاذ قرارات، هنا يجب أن تتم عن عقوبات اقتصادية أو تمركز للقوات، وقد يصبح الوضع صعباً جداً بالنسبة لألمانيا. كما قد يجبر ذلك الألمان على مواجهة السؤال الحاسم، وهو، أين يقفون في علاقتهم مع روسيا. وسيكون صعباً على الألمان أن يتفادوا النتائج. ونظراً لوضع ألمانيا الحالي، فإن دور القيادة الفعلي الآن هو في أوروبا.
إن مخاطر نتائج الأزمة في أوكرانيا على ألمانيا، ربما هي الأعلى من أي بلد آخر في أوروبا. حتى الآن، تمكنت المستشارة الالمانية، أنجيلا ميركل، ووزير الخارجية، فرانك فالتر شتاينماير، بصعوبة، من الحفاظ على موقف موحد، ولكن الخلافات تظهر بالفعل. إن قادة حزب «يسار الوسط الديمقراطي الاجتماعي» الذين ينفذون سياسات الانفراج في علاقات تقارب مع الشرق، بزعامة المستشار فيلي برانت، هم أقل ميلاً بكثير لتولي دور الخصم لروسيا من المحافظين التابعين لحزب ميركل. وقد اعتمد «الحزب الاشتراكي الديمقراطي» الآن الإستراتيجية نفسها مع نظام بوتين كما فعلوا في السبعينيات. عندما سعوا إلى فهم أفضل للشيوعيين. وكان هذا النهج، أن ينشدوا فهماً أكبر لمواقف روسيا، نموذجاً ناجحاً على الصعيد السياسي للحزب.
الألمان منقسمون حول الانتساب للغرب
لا تزال الفجوة تزداد اتساعاً بين النخبة السياسية والألمان الذين يتعاطفون مع روسيا. أظهرت دراسة حديثة أجراها خبير استطلاعات أن ما يقارب من نصف الألمان يريدون أن تعتمد البلاد أرضية مشتركة بين روسيا والغرب. وفي الولايات التي تنتمي لألمانيا الشرقية السابقة، يعتقد ضعف من ينتمون للولايات الغربية، أن ألمانيا يجب أن تتبنى دوراً خاصاً. ولكن حتى في الولايات الغربية، توجد أغلبية قليلة ممن يعتقدون أن ألمانيا يجب أن تقف بحزم إلى جانب حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي في الصراع مع روسيا. إنه من الإنصاف القول إنه عندما يتعلق الأمر بمسألة الانتماء إلى الغرب، تصبح ألمانيا منقسمة.
قد تلعب المشاعر القديمة في معاداة أمريكا، التي تجددت إثر فضيحة تجسس وكالة الأمن القومي، دوراً كبيراً، جنباً إلى جنب مع الخوف من حدوث تصعيد في الصراع مع روسيا، ورغم ذلك، فمن غير المرجح أن غالبية الألمان يريدون إحياء النظام السابق بين الشرق والغرب.
*عن صحيفة «دير شبيغل» الألمانية.. بتصرف
تنويه من المحرر:
تعكس هذه المقالة المنشورة في صحيفة دير شبيغل الألمانية، الرؤى الألمانية الجديدة حول العلاقة بين ألمانيا وروسيا من جهة، وألمانيا والغرب من جهةٍ أخرى. وبغض النظر عن مدى دقة هذه الرؤى، إلا أنها تسلِّط الضوء على احتمالات مرحلة جديدة دخلها الشعب الألماني واضعاً علاقاته الدولية وخياراته الاستراتيجية على بساط البحث، بالتوازي مع المتغيرات الدولية التي تعصف بالعالم أجمع.