الانتخابات الأوروبية والفاشية وتصدع الهيمنة الأمريكية

الانتخابات الأوروبية والفاشية وتصدع الهيمنة الأمريكية

«أوروبا، بالنسبة لأميركا، هي المعبر الأساسي  لأمريكا إلى أورسيا. مصلحة أمريكا في أوربا الديمقراطية هائلة، فعلى عكس روابط أمريكا مع اليابان، الناتو يرسخ النفوذ السياسي والقوة العسكرية الأمريكية على المنطقة الأوراسية. بالتحالف مع الدول الأوروبية المعتمدة بشكل كبير على حماية الولايات المتحدة، فإن أي توسيع للنطاق السياسي الأوروبي هو بشكل تلقائي توسيع للنفوذ الأمريكي. وعلى العكس فإن قدرة الولايات المتحدة على وضع تأثيرها ونفوذها في أورسيا،يعتمد بشكل أساسي على إقامة روابط متينة عابرة للمحيط الأطلسي»

أثارت نتائج الانتخابات الأوروبية هلع الامتدادات الرأسمال المالي الدولي في الفضاء السياسي الأوروبي، إذ أظهرت النتائج التقدم الكاسح للقوى السياسية التي تريد الخروج من الاتحاد الأوروبي في بلدان مفتاحيه، فقد حصلت الجبهة الوطنية في فرنسا على المركز الأول لأول مرة في تاريخها بنسبة ٢٥٪ متقدمة على خصومها في ٧١ دائرة من أصل ٩٦، أما في بريطانيا فقد تصدر حزب استقلال المملكة المتحدة النتائج بحصوله على ٢٦٪. حالة الهلع المستمرة لا تعود فقط للخوف من أثر دخول هذه الأحزاب إلى البرلمان الأوروبي (من ضمنها تعليق المفاوضات حول اتفاقية التحرير الاقتصادي العابرة للأطلسي مع الولايات المتحدة)، بل ما تمثله النتائج من مؤشر حول اتجاهات الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة في هذه الدول.

فمطلب الخروج من الاتحاد الأوروبي في صعود متواصل مما يعني تحول الأزمة الاقتصادية إلى أزمة سياسية ستؤدي على الأرجح إلى تقسيم المعسكر الأوروبي بما ينضوي ذلك من تصدع الهيمنة الأمريكية في القارة العجوز. هذا الاتجاه يشمل عمليا معظم دول الجنوب الأوروبي مع الدول المفتاحيه في أوروبا الغربية على تنوع التمثيلات السياسية في كل منها وبالتالي عدم إمكانية معالجتها كحزمة واحدة، إذ سنكتفي بتسليط الضوء على المثال الفرنسي. قبل تناول الآثار الجيوسياسة لتقدم الجبهة الوطنية في فرنسا، لا بد من معالجة بعض القضايا الإشكالية بخصوص الهوية الطبقية والايديولوجية للقوى السياسية اليمينية بما فيها القوى الموسومة بالفاشية.

من هي الفاشية اليوم

تمضي أجهزة البروباغندا بأذرعها المتنوعة بالاصطياد بالمياه العكرة، عبر تكنيكاتها المعهودة بوضع التناقضات الثانوية محل الأساسية والتركيز على القضايا الجزئية وتغييب السياق الكلي، لحرف الأنظار عن التناقضات التي يتوجب حلها اليوم. إذ تطلق صفة الفاشية بناء على موقف القوة المعنية من قضية الهجرة، فهل هذا هو معيار كاف لإطلاق تسمية الفاشية على قوة ما ؟ 

الجدير بالذكر في هذا السياق أن سياسات النخبة التقليدية الحاكمة من أحزاب الاشتراكية الديمقراطية والأحزاب المحافظة نحو قضية الهجرة تندرج ضمن إطار الصراع بين العمل   ورأس المال، إذ يتم الضغط على العمل ودفع الأجر نحو الانخفاض عبر استقدام اليد العاملة وتحديدا المؤهلة مقابل الرفض القاطع للمهاجرين غير المؤهلين الذين لا يتبقى أمامهم سوى الطرق "غير الشرعية" القاتلة. تشكل هذه السياسية أحد تجليات التبادل اللامتكافىء مع دول المركز بما تمثله من نهب لعقول وكفاءات دول الأطراف. 

 لاشك بأن الخطاب الشوفيني للجبهة الوطنية ينطوي على خطر لصعيد الصراع فيما بين الطبقة العاملة على أسس أثنية ودينية، لكن صفة الفاشية تتحدد بالدور الاقتصادي والسياسي بالمشهد الدولي قبل كل شيء فتفريق الطبقة العاملة على أسس أثنية هو تكنيك استخدم من كل التمثيلات السياسية لرأسمال. فالفاشية كظاهرة تاريخية هي التعبير السياسي عن الفئات الأكثر رجعية من رأس المال المالي التي تريد المحافظة على القائم، أي بالملموس، القوى التي تدافع عن العالم أحادي القطب واستمراريته بأي ثمن والعاملة ليل نهار على كسر الدولة الوطنية أوالقومية حول العالم بما تشكله من عائق لاستمرارية نظام رأس المال، فالدولة الوطنية كمنتج تاريخي تعيق الآليات الداخلية لرأس المال التي تعمل على تعديل أثر ميل معدل الربح للانخفاض (التحرير التجاري والمالي، المشاركة الشعبية السياسية..الخ). بالتالي فصفة الفاشية تحدد حسب مواقف القوة المعنية من هذه القضايا في السياق الأوروبي. 

اليسار واليمين والفاشية 

في السياق الأوروبي

من الناحية الجيوسياسية، بدأت عملية تشكيل الاتحاد الأوروبي منذ خمسينيات القرن الماضي تحت الدعم الأمريكي، بهدف إبعاد شبح الاشتراكية عن أوروبا الغربية والعمل على استعادة أوروبا الوسطى والشرقية من الفضاء الشرقي، لينتقل التركيز إثر انحلال الكتلة الشرقية إلى امتصاص دولها ودفع عملية انتقالها الاقتصادي والسياسي من المعسكر الاشتراكي وتوسيع رقعة الناتو الأمر الذي نرى استمرار يته اليوم في الأزمة الأوكرانية. 

من الناحية الاقتصادية، تشكل أوروبا سوقاً مشتركة دفعت بعملية تمركز وتركز رأس المال لمصلحة دول المركز (تحديدا ألمانيا) على حساب الدول الطرفية التي فقدت جزءاً مهما مما كانت تملكه من بنى صناعية. كما يقوم على إعمال المنافسة بين الطبقة العاملة لبلدان الاتحاد لدفع الأجور نحو الانخفاض. عدا عن إلغائه للسيادة النقدية للبلدان الأعضاء وتسليمها للبنك المركزي الأوروبي الذي تتم إدارته من "تكنوقراط مستقلون" عن العملية السياسية محكومين بإتباع الوصفات النيوليبرالية فقط والامتناع عن إقراض الحكومات مقابل السخاء بإقراض القطاع المصرفي الخاص. فالاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية ضربة للديمقراطية البرجوازية الأوروبية كونه يعمل على سحب وظائف الدولة الوطنية وتحويلها للكيان الأوروبي فوق الوطني، دون أن يرافق ذلك آليات سياسية أو توحيد سياسي يسمح بإخضاع هذه الوظائف للتحكيم الشعبي. الجدير بالذكر هو أن الأزمة في الاتحاد الأوروبي وتحديدا في منطقة اليورو غير قابلة للإصلاح من الناحية الاقتصادية التقنية البحتة إذ أن ذلك يتطلب التوحيد المالي الأمر الذي يستبعد تحققه.

فاليسار واليمين يتحدان بموقفهما من هذه المحرقة للطبقة العاملة وللدول الطرفية، كما يتحدد بالبدائل التي يقدمها ومدى واقعيتها وتمثيلها للطبقة العاملة. أما الفاشية فتتحدد بمستوى الارتباط بالمشروع الدولي لرأس المال ومركزه واشنطن. عليه يمكن القول بأن اليمين المتطرف والفاشي هو من يدافع عن استمرار الاتحاد الأوروبي وينتمي للمشروع الدولي لرأسمال الدولي ومركزه واشنطن، أي الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية والأحزاب المحافظة بنسخها المحافظة المسماة شعبية ومسيحية..الخ. فالفاشية اليوم تتخذ تعبيرات سياسية وأيديولوجية مختلفة (التدخل الإنساني، دمقراطة المجتمعات..الخ) عما كانت عليه في فترة بين الحربين.

معظم الأحزاب اليسارية المنتمية لما يسمى بالشيوعية الأوروبية تعد إحدى مكونات الاحتياطي السياسي لرأس المال المالي (بالإضافة للأدوات الفاشية في شرق ووسط أوروبا) في سياق ظهور حركة شعبية وانفتاح الأفق لتحقيق تغييرات جذرية في بلدان الجنوب بتبنيها استراتيجيات إصلاحية مستحيلة التحقيق من داخل الاتحاد الأوروبي، هذا عدا عن تحالفاتها المشينة مع الاشتراكية الديمقراطية، كما أنها تعد المسؤول الأول عن تقدم الجبهة الوطنية في الحالة الفرنسية.

الهيمنة الأمريكية الجبهة الوطنية وتقسيم الخصم

لا يخطئ المنظار الطبقي هوية الجبهة الوطنية اليمينية وبرنامجها الشعبوي الذي يوجه سهامه إلى أعراض الرأسمالية من شاكلة الليبرالية الفائقة، العولمة، القطاع المالي، المهاجرين..الخ دون أن يتناول أسباب تلك العلل. لكن ما يسترعي الانتباه في مشروع الجبهة الوطنية هو السياسات الخارجية (التي لا تخلو من شوفينية)، فعدا عن كونها  تطرح عمليا الخروج من الاتحاد الأوروبي، ما يعني تفتت الامبريالية الأوروبية، الأمر الذي يعد تقدما من زاوية المعركة الجيوسياسية الدولية القائمة، تطرح الجبهة الوطنية في برنامجها تصورا لفرنسا ندّاً للولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا تلعب دور«قوة التوازن» الدولي آخذةً بعين الاعتبار تقدم العالم نحو «نظام متعدد الأقطاب الذي يجب التمتع به» كما أتى في وثيقتهم البرنامجية. فالبندان الأول والثاني من مقترحات الجبهة الوطنية على صعيد السياسة الخارجي ينصان على:

«الخروج الكامل من قيادة الناتو وعرض تحالف استراتيجي متقدم على روسيا، قائم على شراكة عسكرية وطاقية معمقة، ورفض الحروب التدخلية  ودعم القانون الدولي.. بشكل مترافق، تقديم عرض لالمانيا للالتحاق وتشكيل تحالف ثلاثي باريس-برلين-موسكو» الجدير بالذكر أن هذا الطرح يتقاطع في بعض النقاط مع بعض طروحات الجيوستراتجيين الروس أمثال ايغور بانارين. بطبيعة الحال اتخذت الجبهة الوطنية الفرنسية مواقف ايجابية ناقدة للسياسات الخارجية للاتحاد الأوروبي الداعمة للفاشية في كثير من الملفات الدولية ومن ضمنها الملف السوري، الإيراني، الأوكراني (الملفت بالنظر أن موقفها في هذه الملفات يقع على يسار الشيوعية الأوروبية).

إذا كانت الأزمة الرأسمالية والتراجع الأمريكي يشكلان أرضية موضوعية للانقسامات داخل المعسكر الرأسمالي، فهناك الكثير من الأسئلة تبرز حول الأهداف  من وراء هذا الطرح، فما هو الثمن المطلوب من موسكو وتحديدا فيما يخص علاقتها مع الصين؟ هل هناك من مساعِ لعرقلة تعميق التحالف الروسية الصينية؟ 

بكل الأحوال، الأزمة الأوروبية دخلت مستواها السياسي وانقسام المعسكر الأوروبي أقرب من أي وقت مضى، أما أرضية قسم التحالف الغربي فتنضج باضطراد فاستثمار تناقضات المعسكر الغربي مطلوبة من قوى الجنوب الصاعدة التي يجب أن تعمق تحالفاتها كضمانة لتأريض محاولات واشنطن وامتداداتها الدولية لقسم قواها.

آخر تعديل على الأحد, 08 حزيران/يونيو 2014 00:48