النقابات من تراجع إلى تراجع أشد
تدهور العمل النقابي ظاهرةٌ تشكلت خلال مرحلة تاريخية امتدت منذ دخول النقابات تحت عباءة السلطة التنفيذية، إلى التخلي عن الأساليب والأدوات النضالية في برامج الحركة النقابية. لم يعد العمل النقابي فاعلاً في المشهد العمالي والاجتماعي اليوم، بالتزامن مع اتساع رقعة الفقر وتزايد البطالة وتدمير الخدمات العامة المستهدفة بالخصخصة تباعاً، ورفع أسعارها عشرات الأضعاف كما حصل بفواتير الكهرباء مثلاً. يلي ذلك إغلاق العديد من المعامل في قطاعي الدولة والخاص. ومع كل هذه الإجراءات والسياسات الضارة بالشعب السوري عامة وبالطبقة العاملة خاصة، لم نشهد أي فعل نقابي حقيقي أو حتى ردة فعل شكلية. بل على العكس، النقابات تنكفئ على نفسها، والاحتجاجات النقابية معدومة، وبات العمال في قطيعة شبه كاملة مع النقابات.
يبقى السؤال: ما الذي جعل النقابات على هذه الحال، وهي التي من المفترض أن تكون صوتاً عالياً للعمال وعموم الكادحين، ورديفاً بل قائداً للاحتجاج ورافضاً لكل أشكال الاستغلال، لا أنْ تتحول إلى أداة ترويض؟ وما السبيل لتجاوز هذا الوضع المأساوي؟
نعتقد أنّ هناك أزمة بنيوية في النقابات، وتتجلّى بعضُ مظاهرِها بدءاً بالتعبير والدور: فالنقابات لم تعد تعبّر عن مصالح الطبقة العاملة وتمثّلها، بل عن مصالح أجهزة بيروقراطية تتناغم مع السلطة التنفيذية. ولا تزال تبيع الحقوق والمطالب العمالية والاجتماعية في غرف مظلمة مقابل حفنة من الامتيازات، أو وهم الاستقرار. ممّا أدى إلى فجوة هائلة بين القيادات النقابية والقاعدة العمّالية، لا تستطيع النقابات ردمها بالخطابات الطنانة. ليتحول هذا التناغم إلى تبعية نفعية، عبر عقود قضت على استقلالية النقابات لتصبح مجرد جهاز رسمي ضمن أجهزة الدولة، يُعاد إنتاجها بغطاء شرعية الانتخابات المرسومة مسبقاً في كل دورة نقابية. واليوم نراها أكثر فجاجة حين تم تعيينها.
هذه النقابات لا تكافح، ولا تعبِّئ، ولا تفتح أفقاً، بل تسدّه حتى لو كان باتساع ثقب الإبرة. إنها كسيحة محدودة المهام، تقوم بدور وظيفي محدَّد مبني على امتصاص الغضب العمّالي وتفكيك الحراك العمالي، لتمرير السياسات النيوليبرالية وتزيين نتائجها أيّاً كانت السلطة القائمة بها.
داء النقابات: التبعية للسلطات
النقابات اليوم لا تعاني فقط من فساد قيادات أو هشاشة تمثيل أو رعونة برامج، بل من بنية تنظيمية ناتجة عن سرطان التبعية الذي ابتليت به منذ عقود. هي عاجزة عن دعم التحركات العمالية والاجتماعية الجديدة، أو بناء تحالفات مع مكونات المجتمع الوطنية الصاعدة، عاجزة عن الخروج من تحت عباءة السلطة وقبضتها، وتنفيذ إرادتها المستقلة. ولا خطاب لها يرتقي لمصالح الطبقة العاملة، بل هناك مهادنة لأرباب العمل سواء كانت الحكومة أو القطاع الخاص.
إنّ ابتعاد القاعدة العمّالية عن العمل النقابي هو نتيجة موضوعية لهذا الواقع، وليس لأنّ العمّال لم يعودوا مهتمين بالنضال من أجل مصالحهم وحقوقهم المسلوبة، بل لأن النقابات لم تعد تلك المنظمة النضالية الفاعلة. إنّ عموم الكادحين، وخاصة العمال، في أسوأ ما يكون من حال على كل المستويات والصعد، وبالأخص منها الأوضاع المعيشية المتردية التي عمّت الغالبية العظمى من المواطنين. نلاحظ بعض الاحتجاجات العفوية غير المؤطَّرة، وهذا يعني أنَّ هناك طاقة كفاحية موجودة لدى العمال، لكنها خارج النقابات. ولسان حالهم يقول: إمّا نقابات مكافحة ومناضلة، أو لا جدوى من النقابات.
يبقى السؤال الآخر: هل نكتفي بالنظر لمواجهة هذا الواقع، أم لا بدّ من مشروع يعيد للنقابات وظيفتها الأساسية التي وجدت من أجلها، ويبني الأدوات النضالية الجماعية من أجل الحصول على المطالب والحقوق العمالية؟
إنّ أزمة العمل النقابي هي أزمةُ دور ومكانة ووزن ضمن معادلة الصراع الطبقي، لا يمكن إصلاحها إلا بإعادة بناء النقابات بشكل جديد: مستقل عن أجهزة السلطة التنفيذية، متجذّر في القواعد العمّالية، مبني على تنظيم
قاعدي حقيقي في مواقع العمل، بعيداً عن البنى الصدئة. وذلك من خلال ابتكار أدوات جديدة للمقاومة الجماعية، والاستفادة من الأدوات المختَبرة حتى النهاية، وفتح قنوات التواصل والحوار مع مختلف حركات المجتمع الصاعدة وقواه الوطنية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1252
نبيل عكام