عندما يحتاج الوطن... عمّال
تصدّرت الأحداث الجارية التي يشهدها جنوب البلاد المشهد السوري العام، وقد فعلت فعلها بالسوريين المثقلين أصلاً بالجروح والهموم واليأس والخوف. خاصةً مع نجاح التيار «الفيسبوكي» المعادي في الفوز من جديد بمعركة «السوشيال ميديا»، رغم حجم الممانعة التي فعلت ما تقدر على فعله بحجم إمكانياتها وقدراتها. فالهدف النهائي عند أعداء السوريين في الخارج والداخل هو الإجهاز على أي سلم أهلي وضرب النسيج الوطني، وصولاً إلى التدخل الخارجي المباشر والشامل، وفرض مشروع التقسيم الذي لا يصب في مصلحة أحد من السوريين غير أمراء الحرب والناهبين القدماء منهم والجدد.
من هنا تبرز أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه الطبقة العاملة. فالطبقة العاملة كانت وما زالت خير مرآة للوحدة الوطنية الجامعة، وخير معبّر وحامٍ لها. ولطالما لعبت هذا الدور بمشاركة الحركة النقابية والأحزاب والقوى السياسية العابرة للقوميات والأعراق والأديان والمذاهب. وتاريخ سورية الحديث خير شاهد على ذلك، فالمواقف الوطنية ومحطات النضال الوطني الطويل للحركة النقابية والأحزاب الوطنية هي من أوصلتنا إلى الاستقلال وبناء الدولة والهوية الوطنية والحفاظ على وحدة التراب والشعب والمصير. وهي اليوم ليست عاجزة — إذا ما توفرت الإرادة — عن لعب الدور ذاته وبالقيم الوطنية السورية العليا ذاتها من حكمة وتضحية وفداء.
في مثل هذه الأزمات والانتكاسات، ترتفع الحاجة إلى الطبقة العاملة ومَن وراءها مِن نقابات وأحزاب وقوى، ليس لأنها الطبقة الأكبر في البلاد وحسب، وليس لأنها بانتمائها الطبقي تسمو على كل انتماء آخر، وليس لأنها بفطرتها وطنية الهوى والمعتقد فقط، بل لأنها بحق صاحبة تجربة ملموسة وعَت من خلالها مصالحها المباشرة، ووعت مفهوم الضرورات المتلازمة للجوانب الوطنية والديمقراطية والاقتصادية. ربما لن تجد من يصيغ لك بشكل إنشائي أو بحثي هذا الكلام، لكنك ستجده في كل معمل ومصنع وورشة ومطعم ومشفى ومدرسة. ستجده في كل تجمع عمالي في القطاع العام أو الخاص، المنظم وغير المنظم. وستراها قواعد سلوك وعمل وانتماء لا يشذ عنها إلا القليل الذائب في الكثرة والغلبة.
وهذا ليس سرداً عاطفياً، بل هو واقع معاش. ستراه خلف الآلات وعلى موائد استراحة الغداء ولُقاء إبريق الشاي العمالي الخمير. لن تستطيع أن تفرق بين عمال العتالة في سوق الهال وبين مدير الكهرباء أو عامل الإسمنت. ستراهم عمالاً سوريين يحملون الأوزان نفسها ويأكلون من الطعام نفسه ويقبضون الأجر ذاته. وإذا ما جلست إليهم، ستجدهم جميعاً محبين للبلاد، كارهين للفساد، مؤمنين بالعمل، مقاتلين من أجل اقتصاد الوطن ولقمة أولادهم. فهذا من ذاك وذاك من هذا. حتى في أشد الأوقات والظروف، ستجدهم يداً واحدة: مُسعفٌ يسعف الجميع، وإطفائي يحارب كل نار، ومدرسٌ يعلّم كل طفل. رغم كل المظالم من سياسات اقتصادية ناهبة لكدّ يمينهم، ورغم كل مصادرة لحقوقهم ومكاسبهم، ورغم غياب نقاباتهم وخروجها إلى الحياد، يستمرون بوحدتهم وعطائهم، وينشدون الأمل بوطن كريم مثلهم.
موقف العمال برنامج للنقابات
لقد أثبتت الطبقة العاملة من جديد أنها قادرة — بوعيها الوطني والطبقي — على المساهمة الكبيرة في إخراج البلاد إلى بر الأمان، إذا ما توفرت ظروف ذلك، وفُتحت أبواب الحلول السياسية والسلمية أمام السوريين. وستكون مثالاً ورائداً لجميع القوى المجتمعية الأخرى في الديمقراطية والوحدة والتضحية الوطنية. وهنا يأتي دور الحركة النقابية والأحزاب المنخرطة معها، للتوجّه إلى الطبقة العاملة وتنظيم صفوفها وفتح قنوات الحوار وإظهار مزاياها وموقفها الوطني والسياسي، والالتصاق بها حتى إنجاز برنامج عمل وطني طبقي جامع، ينتج عن حوار شامل، ويُجرى تحشيد القوى حوله، ليكون بعماله صمام الأمان الوطني من جهة، والمساهم في الخروج السلمي من المخاطر المحدقة بالأرض والاقتصاد والشعب من جهة أخرى. ولتنخرط لاحقاً في الحوار الوطني الذي أصبح ضرورة قصوى للحفاظ على البلاد والعباد.
المناعة الوطنية المكتسبة
إن الدعوات الوطنية التي توجهت إلى سلطة الحكومة القائمة باتت تتزايد مع ازدياد المخاطر، وبالتالي لا بد للنقابات من الانضمام إلى هذه الدعوات والإسراع في تنظيم صفوف الطبقة العاملة للمشاركة الفاعلة فيها ببرنامجها وممثليها الحقيقيين، لأنهم سيكونون حاملين لإرثهم الوطني، وسيكون لبرنامجهم حضورٌ وازنٌ لما يتضمنه من مبادئ وطنية جامعة تنقذ البلاد وتوحد الجغرافيا والشعب وتحافظ على الحقوق الديمقراطية والمعيشية وحق تحرير الأرض المحتلة. فثوابت الطبقة العاملة هي ثوابت السوريين عبر التاريخ، لم تؤثر فيها العواصف والملمات والأزمات، ولا انحرافات القوى السياسية أو استبداد السلطة أو استعلاء الصهاينة، ولا حملات الإعلام المستمرة عبر السنين. لأن المناعة المكتسبة من الإرث والأمس واليوم عظيمة وكافية. فمن زرع الأرض لا يحرقها، ومن بنى السدود لا يفجرها، ومن خبز رغيف الناس لا يجوعهم، ومن صنع الدواء لا يقتلهم.
الآن... الآن وليس غداً
نعلم تماماً وضع النقابات الحالي وبُنيتها ومشاكلها، وكيف تم تفريغها من دورها المناط بها وإضعافها. لكننا نعلم أيضاً أنها ما زالت منظمة عمالية تمثل — بالمعنى التنظيمي — مئات الآلاف من العمال في القطاعين العام والخاص. ونعلم أنها ما زالت قادرة على استعادة نفسها ودورها وثقة عمالها إن أرادت ذلك. فإن توفر الإرادة هو ما ينقصها. وإن لم تمتلك إرادتها الآن وفي هذه الظروف المصيرية، فمتى ستفعل ذلك؟
كل ما عليها فعله هو أن تقوم بجولات للتجمعات العمالية لتكتسب العزيمة والإرادة، وأن تبدأ بإطلاق الحوارات والمؤتمرات العمالية بأعلى درجات الديمقراطية. وخلال أسابيع، ستكون قادرة على صياغة البرنامج الوطني الطبقي، وإعادة هيكلة البنية التنظيمية القادرة على حمله والمضي به نحو المؤتمر الوطني القادم، لتساهم بوزنها وماهيتها العابرة لمكونات ما قبل الدولة الوطنية في الخروج من الوضع الشديد الخطورة إلى بر الأمان، المتمثل بوحدة سورية واستقلالها وبناء وطن كريم عزيز قوي موحد، وطن المواطنة والحرية والعدالة الاجتماعية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1235