العامل المليونير
راتبهم بالملايين، لذلك تحلم الأغلبية العمالية بأجرٍ مثلهُ، يُطلَق عليهم في بعض الأوساط العمّالية «الخواجات»، فأجرهم يصل لستة ملايين ليرة، يعملون في أغلب الأحيان بالإدارات الوسطى للشركات والمؤسسات، أو أنهم مهنيّون محترفون يشرفون على خطوط الإنتاج، أو أقسام المبيعات والمشتريات، وغيرها من المواقع التي تحتاج لنوعٍ خاصّ من الكفاءة المهنية والإدارية. يُنظر لهم على أنهم «عايشين» وليسوا محتاجين لشيء. وللوهلة الأولى يُعتبَر هذا طبيعياً إذا ما قارنّاه بالشرائح العمالية الأقل أجراً أو ذات الحد الأدنى للأجور، أو حتى ببعض المهن «اللّي ما بتجيب همها». فهل حقاً هؤلاء العمّال بخير؟ وهل نستطيع القول بأنّهم ضمن دائرة الأمان المعيشي المفترض؟ أم أنَّ لواقعهم معطياتٍ مختلفةً عمّا تحجبهُ الأصفارُ الستّةُ المصفوفةُ في قيمةِ راتبهم «السخيّ».
نتابع في مادتنا الثالثة سلسلة المواد التي تهدف لتسليط الضوء على بعض الشرائح العمّالية التي اخترناها وفق معيار قيمة الأجر المقطوع، لعلّنا نُفلحُ في إظهارِ جانبٍ صغير من واقع الطبقة العاملة المستمرةِ بالتدهور على الأصعدة كافة، ولعلنا ندحضُ ادّعاءات المدَّعين وضوضاء المضلِّلين وننكز المسؤولين الحكوميّين ومِن بعدهم النقابيّين كي ينهجوا نهجاً يصبّ في صالح المنهوبين المنكوبين.
توجَّهنا هذه المرّة إلى أحد معامل الصناعات الجلدية الموجودة في دمشق، وتعرَّفنا على أبو حكمت، الذي يشغل وظيفة المسؤول الإداريّ للمعمل ومديراً للإنتاج فيه، وهو في العقد الخامس من عمره، صاحب بنيةٍ جسدية قوية، وتظهر عليه دلالات الشخصية القيادية بشكل واضح.
ربع راتب الثمانينيّات و«رجعنا عالجلدة»
بدأنا بسؤاله عن واقع العمل بشكلٍ عام، ووظيفته بشكل خاص، والصعوبات المتعلّقة بهذا النوع من العمل الصناعي، وعن واقعه المعيشي والاجتماعي. فأجابنا متحدثاً بصوته الرخيم وكلامه المتزن: «أنا عتيق كتير بالمصلحة، وبمفهوم السوق أنا متل الجلد؛ كل ما عتق كل ما صار أغلى، وكمان بيقولو عنّي واحد من شيوخ الكار، وهالمسمّيات على حلاوتها وأهميتها بالسوق وبالمجتمع، بس بالواقع الملموس ما بتقدّم ولا بتأخّر بهيك ظروف، يعني بتبقى ميزة معنوية مو أكتر، متل وقت يكرّموا حدا ببطاقة شكر حقّها ألف ليرة، وهو فاني عمرو باللّي اشتغلو، الخبرة اللّي عندي حقّها كتير، والمفروض إنّي عايش عيشة شوي مرفَّهة، أو حتى ميسورة، بس هالشي مو متحقّق. الرّاتب اللّي باخدو حالياً ما بيطلّع ربع راتبي بالثمانينيّات، وقت كنت أجير بورشة شناتي بالحريقة، كنت شب بأوّل طلعتي، اشتغلت ودرست وصمّدت مصاري، وتجوزت. وبالتسعينيّات فتحت ورشتي واشتغلنا شغل مخيف ليل نهار، كان تلت رباع شغلنا تصدير. وبعدها بكم سنة بلشت الأمور تتدهور شوي شوي، وصارت العالم تهرب من المصلحة، ورغم هيك كان لسّا ماشي الحال حتى إجت الأزمة، وصار اللي صار، وراح المعمل وضعنا مو عالحديدة عالجلدة».
تابع العم أبو حكمت: «بعد ما راح المعمل، إجيت اشتغلت بالمعمل مدير إنتاج، وبعد كم سنة سلّموني مدير إداري كمان، ووفّروا على حالهم راتب المدير اللّي سافر، وصار راتبي أحسن. وكل سنة بيرفعولي راتبي شوي. عندي إجرة بيت مليون بالشهر، وعندي صبيّتين لسّاتهم جامعات، وشب بكالوريا، وهالكم مليون بدهم يصرفوا على كل هاد. خليني إحسبلك ياها عاليومية؛ أنا يوميتي 200 ألف، بدي جيب أكل وشرب ومواصلات واتصالات وإنترنت لأربع أشخاص كل يوم بيومو، وكل شهر بدّي أجرة بيت وفواتير كهربا ومَي وأمبير، وكل موسم بدنا ثياب ورسوم جامعة أو معاهد، ومازوت ومونة. كلّو بهالمبلغ هاد. بنتي المسافرة بتبعتلنا إجرة البيت، ورغم هيك عطول مديون، لأنو المعادلة مو زابطة وما بتزبط، عيلتي بدها 10 ملايين لنعيش عالحد الحد».
شغل «الإيد ما بزيد»
«في كتير عالم بتقلّي (حميد ربك) أنّو راتبك هيك، إنت وضعك منيح بتقبض 6 مليون، مو متل العامل أو اللّي راتبو مليون أو مليونين. بس خلينا نتفق على شغلة، كلّياتنا بالهوى سوى، اللي راتبو مليون عم يعتاز ويتديَّن ليكمّل الشهر، واللي راتبو 6 مليون كمان عم يعتاز ويتديّن، لأن الفجوة كبيرة كتير بين الراتب والمعيشة، كل رقم بيتاخد بالسوق ما بعيّشك بعيد عن الأساسيات والحرمان هو مو كافي. وزيدك من الشعر بيت؛ كمان لازم يكون في فائض لكبرتنا. طول عمرنا -وأهلنا قبلنا- منشتغل ومنقيم مبلغ منصمّدو، بس هالشي انتهى آخر ثلاثين سنة، وما دام ما في فائض من الأجر منضل على مقولة شغل (الإيد ما بزيد)، فكيف إذا شغل الإيد ما بقا يكفّي ولا يطعمي خبز!».
همّي بقلب غيري
يتابع مدير الإنتاج بأنّه لا يفكّر أبداً بفتح معملٍ خاصٍّ به، حتى إنْ توفُّر التمويل، لأنّه لن يستطيع الصمود بالسوق لمدّة كافية، ويضيف: «كُلَف التشغيل عالية كتير، وزمن الورشات الصغيرة أو المعامل الصغيرة راح من زمان. اليوم في شيت إنّي الكبير بياكل الصغير وبطلّعوا من السوق ببساطة، أو بيعطيه شغل مصانعة، وهامش الربح بصير صغير كتير، وخاصة بهالظروف، ما في شي عم يساعدنا، لا الكهربا ولا المي، وبتعرفي قدِّي هدول الشغلتين أساسيّات بشغلنا. حتى المواد الأولية اللّي بنستوردها صار إلها شروط كتير، والكل بدو ياكل منها، وبتوصل لعنّا بأرقام خيالية بتخليك تطلع من منافسة السوق، وما عاد فيك تصدّر، لأنّو كلف التشغيل عندك عالية، ومو بقيان بهالسوق غير كم معمل كبار شغّالين وماسكين السوق. كل هاد بخلّيني مكاني و(همّي بقلب غيري) متل ما بقولوا. وهالظروف بتتغيّر وما بتدوم، وأكيد بعد هيك أزمة حترجع البلد تمشي بطريقة صح، لأنّو البلد خيرها كتير من كلّ النواحي؛ عنّا ثروات وعنّا طاقات وخبرات، وأنا مؤمن إنو حتوقّف هالبلد عرجليها لأنّو عنّا شعب شغّيل وفهمان».
الطبقة العاملة بأكملها تحت مؤشر الحدّ الأدنى للمعيشة
وفق المؤشِّر الدوري لجريدة قاسيون، فإنّ الحدّ الأدنى لمعيشة العائلة السورية والعمّالية ضمناً يقارب الملايين التسعة، ومهما اجتهدتَ فلن تجد في أيِّ شريحة من شرائح الطبقة العاملة من يلامس هذا المؤشر، بل إنْ أَخَذْتَ معايير الأمم المتحدة للفقر المدقع المُحدّدة بأقّل من 2.15 دولار يومياً للشخص الواحد، فستجدُ بأنّ الغالبية العظمى من العمّال مصنَّفون ضمن هذا الفقر المدقع، ويمارسون واجبهم نحو اقتصادهم الوطني دون أدنى حقوق، مرتقبين الأفق الذي سيفتح قريباً غير بعيد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1202