الأطفال وازدواجية معايير سوق العمل
أثناء زيارتي لأحد الأصدقاء في صحنايا، شاءت الصدفة أن ألتقي بالطفل مازن الذي يبلغ من العمر 14 عاماً، وهو حالياً المعيل الوحيد لأهله بحكم التحاق أخيه الأكبر بالخدمة الإلزامية. يعمل مازن في أحد مغاسل السيارات الموجودة في المدينة، منقطعاً عن دراسته وطفولته، داخلاً في معارك سوق العمل وتشوهاته في هذا العمر المبكر.
كغيره من الأطفال الكثيرين، يعمل لساعات طويلة من العمل مقابل الأجر المتدني، ولا يميز عمل أي طفل عن طفل آخر سوى طبيعة العمل وتفاوت شدة قساواتها على الأطفال، ومن سوء حظ مازن فإن مهنة غسيل السيارات تعتبر من المهن الصعبة حتى على الرجال نظراً لما فيها من أعمال يدوية وعضلية وبدنية، فكيف هو الحال إذا ما كان العامل هو مجرد طفل لم يكتمل نمو جسده بالشكل المطلوب لممارسة هذا النوع من الأعمال؟
ساعات العمل الطويلة وطبيعة العمل:
يمتد يوم العمل الخاص بمازن إلى حوالي عشر ساعات بشكل وسطي، يمارس في هذه الساعات كل الأعمال تقريباً من الغسيل والمسح والتنظيف هذه الأعمال التي قد تبدو بسيطة إلا أنها في مهنة غسيل السيارات بحاجة إلى حركات جسدية متعبة وذات أضرار واضحة على جسد العامل فهي تسبب آلام الظهر والرقبة المستمرة نتيجة لوضعيات الانحناء الصعبة والمرهقة، إضافة إلى ذلك فإن من ضمن أعماله متابعة أمور صاحب العمل الشخصية (بيعمله كاسة شاي، وبياخدله غراض للبيت مثلاً)، ناهيك عن التعرض الدائم للماء صيفاً شتاءً، وما يسببه من أمراض نزلات البرد والإنفلونزا وخاصة في فصل الشتاء.
الأجر المتدنّي:
يتقاضى مازن أجراً أسبوعياً مقطوعاً يبلغ 40,000 ليرة فقط لاغير، أي إن الأجر الشهري يبلغ 120,000 ليرة، على الرغم من قيامه بمعظم الأعمال وبكفاءة جيدة، إلا أن كونه طفلاً وبالتالي فهو لا يتمتع بالكفاءة والخبرة اللازمة من أجل أن يتقاضى أجراً أعلى، وكأن معيار الأجر هو العمر فقط بغض النظر عن حجم الأعمال التي يقوم بها هذا الطفل ونوعيتها. إضافة إلى أجره المتدني على اعتباره طفلاً فهو مضطر لتحمل غلاظة واستبدادية وتحمل كل العقد النفسية التي يحملها صاحب العمل ويعاني منها، فمازن طفل في مرحلة تكوين الخبرة وكسبها لذلك لا بدّ من أن يمارس عليه صاحب العمل ما يخطر على باله من الضغوط النفسية والمعنوية والمادية، حرصاً منه (أي صاحب العمل) على مصلحة مازن وثقله ومساعدته في اكتساب الخبرة؟ ولكن إذا تمعنّا بالأمر أكثر فما يحرص عليه صاحب العمل فقط أرباحه ويتجسد ذلك في علاقة الأجور بالأرباح، فغسيل سيارة واحدة يدر 10,000 ليرة وعلى اعتبار غسيل 20 سيارة يومياً ووجود ثلاثة أطفال عاملين ومعلم كما هو الحال في مغسل مازن، فإن مجمل الإيرادات اليومية يبلغ 200,000 ليرة منها 15% للمعلم أي 30,000 إضافة إلى أجرة الأطفال اليومية التي تبلغ حوالي 17,000 ليرة بمعدل 5,700 للطفل الواحد تقريباً، فإن ما يزيد لصاحب العمل يقدر بحوالي 153,000 ليرة، وعلى اعتبار أن نسبة الربح تقدر ب 50% من الإيرادات فإن الأرباح اليومية التي يجنيها تبلغ حوالي 100,000 ليرة. ونستنتج أن هذا المردود اليومي الذي يعتبر مازن مساهماً أساسياً به يوزع على الشكل التالي 2.8% لكل طفل أي 8.5% تذهب لأجور الأطفال، إضافة إلى 15% لأجرة المعلم وبالتالي تصبح نسبة الأجور بكاملها تقدر بحوالي 23.5%، والباقي يوزع على التكاليف الأخرى بنسبة 26.5% ونسبة 50% لأرباح صاحب العمل.
الخلاصة:
إن العلاقة التي تربط الأطفال بالعمل علاقة ذات معايير مزدوجة، فسوق العمل يأخذ بعين الاعتبار أن هذا العامل هو مجرد طفل في طريقة حسابه لأجره، أما إذا ما نظر إلى المهام المطلوبة منه وطبيعة العمل التي يعمل في ظلها فيجد هذا الطفل نفسه وكأنه رجل مفتول العضلات يبلغ من العمر ثلاثين عاماً، وهذا ما ينعكس على الحياة المعيشية للأطفال وذويهم. فالأسرة التي تتألف من خمسة أفراد بحاجة إلى أكثر من 2,000,000 شهرياً لتغطية تكاليفها المعيشية الدنيا، وعلى افتراض أنه يوجد عاملين في هذه الأسرة فإن العامل الواحد يجب أن يكون أجره ما لايقل عن 1,000,000 ليرة بالحد الأدنى، ولسوء حظه مرة أخرى فإن مازن واحد من هذين الاثنين، وهذا ما لا تفهمه علاقات الإنتاج السائدة في ظل أكثر أشكال الاقتصاد الليبرالية تشوهاً، فكما ذكرنا سابقاً العلاقات السائدة تأخذ بعين الاعتبار طفولة مازن فقط بحساب أجره، ولا تتعامل معه على أنه أحد المعيلين الأساسيين لعائلته، ولكن على الجهة المقابلة تتعامل معه بكونه رجلاً ناضجاً قوياً على الأعمال والمهام التي يجب أن يقوم بها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1113