القوى المنتجة... مزيد من الانهيار والتدمير
انطلاقاً من أزمة المحروقات الحالية– التي تنتج عنها عدة أزمات– بات وضع الطبقة العاملة يرثى له بسبب حجم المعاناة المتزايد في هذه الأيام، التكاليف المعيشية بأعلى مستوياتها وبارتفاع متزايد، ندرة المواصلات، انخفاض القوة الشرائية، تضخم مستمر ومستمر، ارتفاع معدلات البطالة المرتفعة أساساً، وغيرها الكثير من الأزمات التي تضرب بشكل مباشر وغير مباشر القوى المنتجة في مقتل وتساهم في انهيار ما تبقى من الاقتصاد الوطني وهذا ما يستدعي تدخلاً سريعاً بحلول جذرية وعميقة تساهم بإنقاذ ما تبقى..
العمال المياومون من بؤس قديم إلى بؤس متجدد أكثر تدميراً:
ظاهرة العمال المياومين ظاهرة متجددة في هذه الأيام فهي مرتبطة بالطبقة العاملة منذ عشرات السنوات، ولكن خصوصيتها في هذه الأيام قاسية جداً أكثر من أي وقت مضى. يتجمع عشرات العمال يومياً منذ ساعات الفجر الأولى في الساحات الرئيسية بمختلف البلدات والقرى سعياً منهم لنيل فرصة عمل لحظية ومؤقتة تساعدهم على تأمين قوت اليوم، ولكن في ظل الأزمة القاسية اقتصادياً لا يجد هؤلاء المياومون أية فرصة يمكن استغلالها من أجل تأمين تكاليف المعيشة المرتفعة بشكل جنوني. وبناء على تجدد هذه الظاهرة قمنا بزيارة أحد التجمعات بالريف الدمشقي في مدينة صحنايا والتقينا بأحد العاملين المنتظرين فرجاً مؤقتاً يبعد عنهم هموم المعيشة ليوم واحد.
السيد عمار من محافظة دير الزور يبلغ الخامسة والثلاثين من عمره، اعتاد الوقوف والانتظار مع مجموعة من الرجال يومياً طالبين ومنتظرين أية فرصة عمل تتاح لهم مهما كانت سواء (عمال بناء، عمال زراعيين، إلخ) وبعد مرور الوقت ونفاد الفرصة اليومية في الحصول على عمل يومي وقبل أن يعود إلى بيته– منكسراً ومنهكاً من أثقال الالتزمات التي تنتظره– جلسنا بالساحة ذاتها وتبادلنا بعض الأفكار الخاصة بهذا العمل في ظل الأزمة الحالية، ووضح لنا عمار أنه لم يتم طلب أي عامل منذ قرابة الأسبوعين وبالتالي فإنه منذ أربعة عشر يوماً يأتي ويقضي ساعات وساعات في ظل موجة البرد والصقيع ونهاية يعود خالي الوفاض منكسر الخاطر.
يتراوح وسطي أجرة اليوم لهذا النوع من الأعمال بمختلف أشكاله بين 25,000– 30,000 ليرة يومياَ وعلى افتراض العمل طوال الشهر فإن الدخل الشهري للعامل يبلغ حوالي 750,000– 900,000 بأحسن الأحوال إلا أنه وبناء على ما أخبرنا به عمار (اليوم أبو زيد خاله يلي بيقدر يشتغل 10 أيام بقلب الشهر) أي إن الدخل الشهري في ظل هذه المعطيات لا يتجاوز 350,000 ليرة. على الجهة المقابلة تبلغ تكاليف المعيشة لعائلة من خمسة أفراد ووفقاً لمؤشر قاسيون ما يزيد عن 2,000,000 ليرة بحدها الأدنى، وبالتالي فإنه حتى لو تم العمل يومياً على مدار الشهر فإن نسبة تأمين احتياجات العائلة لا تتجاوز 36% بأحسن الأحوال، ولكن حتى هذه النسبة يحلم بها هؤلاء المفقرون علماً أنه وكما تم الذكر آنفاً فإن الدخل الشهري لايتجاوز 350,000 ليرة وبالتالي فإن نسبة تغطية الاحتياجات لا تزيد عن 14% فقط لاغير.
وأضاف عمار– خريج جامعة دمشق كلية هندسة المعلوماتية– أنه في معظم الأيام يعود إلى بيته وعائلته بدون أية ليرة تذكر فمصروف عائلته المؤلفة من 4 أفراد يتجاوز حوالي 83,000 ليرة ينفقها عمار بشكل يومي من أجل تغطية الحد الأدنى من معيشته ومعيشة عائلته، وذلك لعدة أمور من غذاء وأدوية ومواصلات وإلخ، وقال (تخيل أنه بمعظم الأيام منضل بلا أكل، يادوب نقدر نطعمي الولاد كم لقمة، أما أنا وزوجتي والله العظيم أحيانا ما مناكل، مافي شغل وبدك ما تقرف أنا خريج هندسة معلوماتية بس وإذا بدي أتوظف راتبي مستحيل يكفيني أجار طريق، قلت لحالي منطلع مع هالعالم مندور ع رزقتنا، يوم منشتغل بنقل التراب ويوم منشتغل بالبناء ويوم منروح ع الأراضي الزراعية وخليها لربك، عم اتحمل البرد وظروف شغل غير آمنة ووجع الظهر والمفاصل بس لحتى أقدر طعمي ولادي. صرلي أسبوعين ما فوتت ليرة ع البيت، فيك تتخيل حجم الكارثة يلي أنا فيها، الديون هدت حيلي، البرد عم ينخر عضامنا بالبيت مافي ولا وسيلة تدفئة تذكر، الله يفرجها أحسن شي).
انزياح العمالة...
آثار أزمة المحروقات الحالية وانعكساتها متعددة ومختلفة ولكنها بالمجمل تصب في نتائج موحدة جوهرها مزيد من تدمير ما تبقى من اقتصاد وطني أو قوى منتجة على حد سواء، بعد هذه الأزمة القاسية تحول موضوع ندرة المواصلات من استثناء يمكن التعايش معه إلى حد ما، إلى قاعدة أساسية في حياة مجمل العاملين بمختلف أعمالهم، بالإضافة إلى ندرة هذه الخدمة فإن البدائل المتاحة لا يمكن تصورها أو التفكير بالاستفادة منها بسبب ارتفاع تكاليفها الجنوني، وبناء عليه بدأ العم أبو سعيد حديثه معنا بالسؤال التالي: بس أوصل لمرحلة ما أقدر أوصل على شغلي شو لازم أعمل؟؟
العم أبو سعيد يعمل من سكان مدينة زاكية التابعة لمنطقة الكسوة، يعمل بأحد معامل الألبسة في دمشق، اضطر لترك عمله بعد خمس سنوات بسبب أزمة المحروقات وعدم مقدرته على الوصول إلى عمله، واضطر إلى البحث عن عمل آخر في مدينته مختلف كلياً عن طبيعة عمله القديم. كان يتقاضى أبو سعيد في عمله السابق راتباً شهرياً يبلغ 800,000 ليرة كان يدفع منها حوالي 90,000 ليرة مواصلات من بيته إلى مكان عمله، أي تقريباً ما يقدر ب11.25% من مجمل دخله كان مخصصاً للمواصلات، أما في ظل هذه الأزمة– غير محددة الزمن– ومن أجل استمراره بنفس العمل فإنه سيضطر لدفع ما يقارب حوالي 400,000 ليرة شهرياً فقط كمواصلات من أجل الوصول إلى عمله، وتحديداً في ظل عدم رغبة صاحب العمل برفع الرواتب بسبب الأزمة الحالية، أي إن أبا سعيد ومن أجل استمراره بعمله مضطر للتضحية ب 50% من راتبه فقط من أجل الوصول إلى عمله؟؟ الأمر الذي اضطره إلى البحث عن عمل بديل قريب من مكان إقامته، ولكن ظروف العرض والطلب على طبيعة عمله في المدينة ليست لصالحه أبداً، ولو كانت غير ذلك لما اضطر للعمل بعيداً عن مدينته. الأمر الذي يؤدي إلى بحثه عن عمل مختلف كلياً عمّا يستطيع القيام به بخبرته الطويلة في مجال الخياطة وصناعة الألبسة. على حد قوله يضطر أبو سعيد للعمل في المهنة الأكثر انتشاراً في مدينته وهي الزراعة، فقد انضم إلى ورشة عمال زراعيين من أجل تأمين معيشته اليومية، وكما هو معروف فإن طبيعة هذا العمل معروفة بموسميتها وعدم استمراريتها، ناهيك عن ظروفها القاسية في ظل البرد القارس، فإن هؤلاء العمال يعملون في العراء بشكل كلي متعرضين لقسوة الجو صيفاً أو شتاءً، إضافة إلى ذلك فإن هذا العمل يومي، وبالتالي وفي ظل هذه الأزمات المتعددة نادراً ما يتم العمل يومياً خلال الشهر. ويقدّر الأجر اليومي للعامل الواحد بحوالي 20,000 ليرة أي إن الدخل الشهري يقدر بحوالي 300,000 على افتراض العمل 15 يوماً شهرياً، وعلى حد تعبيره فإن هذه المدة تعتبر تقدّمية جداً في ظل الأوضاع الحالية.
انطلاقاً من كل ما سبق لا يخفى أبداً حجم الانهيار الذي يعاني منه الاقتصاد الوطني من جهة والقوى المنتجة من جهة أخرى، علماً أن هذه الحالات هي حالات فردية تعبر عن الكثير والكثير من أفراد الطبقة العاملة في الفترة الحالية، وسواء كان العامل ينتمي إلى العمال المياومين أو إلى العمال الذين يضطرون إلى الانزياح الجغرافي والمهني بسبب انعكسات الأزمات الحالية فإن حاله ينتقل يومياً من سيء إلى أسوأ، فهو غير قادر على تأمين احتياجاته اليومية بحدها الأدنى، غير قادر على تجديد قوة عمله المنهكة والتي أصبحت بحاجة إلى إعادة خلق من البداية، فمسألة تجديد قوة العمل لم تعد هي المشكلة، إنما المشكلة هي عدم وجود قوة العمل بحد ذاتها، فهي منهكة ومهترئة ومختفية بشكل كلي تقريباً. هذا على صعيد حالة الطبقة العاملة، أما انعكاس الأزمة على الاقتصاد الوطني فهو لا يقل خطورة، ناهيك عن عدم استثمار رأس المال البشري الهائل كمّاً ونوعاً، فإن استثمار هذه الثروة الهائلة بمجالات تختلف عن إمكاناتها وكفاءتها يهدد الإنتاج الوطني ويزيد من انهيار الاقتصاد أكثر وأكثر. وإذا ما نظرنا إلى سياسات الحكومة في ظل كل هذه الكوارث الاجتماعية والاقتصادية وإجراءاتها، نكتشف يومياً ممارسات هذه الحكومة وأنها موجودة فقط لخدمة النخب المالية، لتلبية مصالح القلة القليلة على حساب مصلحة مجمل الشعب السوري، من خصخصة القطاعات الإستراتيجية، إلى سياسات رفع الدعم، وغيرها من القرارت.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1101