«حُلمُنا هو عالم خالٍ من الفقر»!!
وضع البنك الدولي على مدخل بنائه في واشنطن لوحة كُتِب عليها «حلمنا هو عالم خالٍ من الفقر»، ولكن الكلام الأدق الذي ربما أراد صُناع القرار في البنك الدولي قوله عبر شعارهم هذا وتؤكده نصائحهم وتوصياتهم وتوجهاتهم العملية لاقتصادات العالم، أنهم يرغبون برؤية عالم خالٍ من الفقراء (حسب نظرية مالتوس الجديدة)!!
وذلك من خلال الحروب التي تشنها الامبريالية بشكل مستمر، ويذهب ضحيتها الملايين من البشر، وتدمر وتنهب فيها مقدرات الشعوب من أجل أن يعيش حفنة من الامبرياليين على هذا الخراب والدمار الواسع الذي يوقعونه بالشعوب يومياً، بأشكال وألوان مختلفة، بالحرب العسكرية المباشرة تارة، وبفرض السياسات الاقتصادية الليبرالية التي تبنَّتها الامبريالية وسعت لتعميمها، باعتبارها الأداة التي ستتحكم من خلالها بالثروات ومقدرات الشعوب، تارة أخرى.
إن ما ابتدعته رأسمالية العولمة في سياساتها وسيطرتها، التشجيع المستمر على ظاهرة التوتر الاجتماعي ببُعديه: السياسي المرتبط بشكل الحكم ونظامه، والاقتصادي من خلال السياسات المتبعة، كإفقار الناس ونهب الخيرات والارتهان لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين. والسؤال: هل كان باستطاعة السياسات الليبرالية، الاقتصادية ـ الاجتماعية، أن تمر دون أن يكون لها حامل اجتماعي يعيد إنتاجها في الواقع؟
إن التحولات الاقتصادية الاجتماعية التي حدثت في بلادنا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، من النمو الواسع لقوى السوق (رجال الأعمال) داخل وخارج النظام، قد لعبت الدور الأساسي في إنتاج السياسات الاقتصادية الليبرالية وفقاً للطريقة السورية، وساعد على ذلك الغياب الكامل للحياة السياسية بعدم وجود قوى وأحزاب تدافع في برامجها، قولاً وفعلاً، عن المصالح الحقيقية للفقراء السوريين، حيث كانت موازين القوى مختلة تماماً لمصلحة أساطين قوى السوق، الذين امتلكوا سلطة القرار الاقتصادي، واستطاعوا انتزاع الكثير من المراسيم والتشريعات التي أتاحت لهم الحرية في تثبيت قواهم على الأرض، وإقصاء القوى الأخرى باعتبار (من يملك يحكم). ومن هنا غاب عن الساحة أي فعل للقوى الشريفة والنظيفة تقريباً في مواجهة قوى السوق وبرامجها القصيرة قياساً بعمر السياسات الليبرالية في مصر وتونس التي امتدت لسنوات طويلة ما قبل الانفجار الكبير للشعبين المصري والتونسي، حيث حولت تلك السياسات الشعبين الشقيقين إلى متسولين للقمة العيش، ولا هم لهم سوى السؤال عن القيم الشرائية للمعاش أو كيفية تأمين المتطلبات المعيشية الأساسية ليوم الغد، وكذلك فعلت السياسات الاقتصادية الليبرالية بشعبنا، حيث حولته إلى شبه متسول يركض وراء قوت يومه، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وهنا لا نتحدث بلغة العاطفة بل بلغة الواقع المرير الذي يعيشه شعبنا الآن، والذي يسعى إلى انتزاع حقوقه المشروعة التي سُلِبت منه، وحولته إلى متسول في وطنه، بينما قوى السوق (رجال الأعمال الجدد) يعيشون كالعلق على دماء المقهورين والمعذبين في الأرض.
سار برنامج القوى الليبرالية بعدة اتجاهات رئيسية، أولها الهجوم على قطاع الدولة وإنهاء دوره الاقتصادي والاجتماعي، وليس آخرها الهجوم على مكاسب العمال وحقوقهم، ويمكن أن نفصِّل بهذا:
أولاً: الأجور: إن إعادة هيكلة الاقتصاد السوري الذي اقترحه صندوق النقد الدولي كان في مقدمته إعادة هيكلة الأجور، بما يؤدي إلى خفضها عبر تحرير الأسواق، ومنها تحرير سوق العمل الذي يُخضِع قوة العمل للعرض والطلب حيث تتحدد الأجور على أساس ما هو معروض في السوق من اليد العاملة، وليس على أساس التكاليف الحقيقية لمستوى المعيشة التي حددها المكتب المركزي للإحصاء بـ31 ألف ليرة سورية لأسرة مكونة من خمسة أشخاص، بينما الحد الأدنى بعد الزيادة الأخيرة ما يقارب العشرة آلاف ليرة سورية.
ثانياً: سَنُّ مجموعة من القوانين والتشريعات وفي مقدمتها إصدار قانون العمل الجديد رقم 17 بما يتوافق مع مصالح قوى السوق والاستثمارات المنشودة التي بشرتنا بها الحكومة السابقة، ومازالت مصرة عليها الحكومة الحالية، باعتبار أن مثل قانون كهذا سيكون ملبياً لرغبات المستثمرين المحليين والأجانب، حيث نرى الآن نتائج هذا القانون الذي دعونا ودعت معنا الكثير من القوى، بمن فيها بعض النقابيين بضرورة تعديل العديد من مواده وخاصة المواد 64 و 65 التي تتيح لأرباب العمل تسريح العمال تسريحاً تعسفياً.
ثالثاً: عملت الحكومة السابقة على انتهاج سياسة التوظيف المؤقت للعمال والموظفين حتى أصبح هناك أشكالً عدة للتوظيف، بعضها بعقد سنوي، وآخر مؤقت لمدة معينة، وهذا الشكل من التوظيف يتماشى مع توصيات صندوق النقد الدولي القائلة بتسهيل التوظيف وتسهيل الطرد.
رابعاً: توقُّف العديد من الشركات والمصانع أدى إلى حرمان العمال من الكثير من الامتيازات التي كانت تعتبر جزءاً من الأجر مثل الحوافز الإنتاجية.
إن الحراك الواسع الذي قامت به قوى السوق لم يقابله حراك آخر يؤدي إلى تحجيمه والتقليل من آثارة التدميرية على الاقتصاد والمجتمع، بل كان هناك مسايرة ومحاباة لهذا النهج بالرغم من الأصوات النقابية الكثيرة التي حذرت من المخاطر التي تحملها السياسات الاقتصادية الليبرالية، والتي نرى الآن نتائجها الواضحة، حيث تكونت في البلاد أزمة عميقة سياسية واقتصادية واجتماعية جاءت الحركة الاحتجاجية المندلعة الآن كأحد أشكال تفجرها، ولا مخرج منها إلا بتلبية المطالب الحقيقية المشروعة لفقراء الشعب السوري.