« كل أيار وأنتم ......»
اعتاد الشيوعيون السوريون عبر تاريخهم الاحتفال بالأعياد الوطنية والأممية في مختلف الظروف .حتى في مراحل هيمنة الدكتاتوريات السياسية التي مرت بالبلاد منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا . وقد أولوا هذه الاحتفالات أهمية خاصة؛ حتى أصبحت تقليدا تاريخيا ًيتفاخر به الشيوعيون .وبرزت كإحدى محطات النضال الوطني الطبقي الذي كانوا يقودونه في طول البلاد وعرضها .وقد اعتادت الجماهير الشعبية القريبة من الحزب أو البعيدة عنه المشاركة في هذه الاحتفالات أو تتبع أخبارها والإشادة بها من قبل الأصدقاء، وقدحها والتهكم عليها من قبل الأعداء.
ولكن العقود الأربع الأخيرة، بما شهدت من انقسامات مأساوية متكررة شرذمت الحزب وشظته، وجعلت منه «شعوباً وقبائل.. لا ليتعارفوا» بل ليتنافروا أدت هذه الانقسامات إلى تراجعات سياسية وتنظيمية بل وفكرية كثيرة. ولا أريد أن أبتعد عن موضوع الاحتفالات فقد أدت أيضاً إلى تغيير نمط هذه الاحتفالات نحو الأضعف والأسوأ فجعلتها: إما أن تكون تحت رعاية ووصاية السلطة وأجهزتها وإما أن تجري في انعزالية تامة لا يلتقي بها فصيل مع آخر.
ويبقى للاحتفال بعيد العمال العالمي في الأول من أيار أهمية خاصة لدى الشيوعيين عموماً ولدى الشيوعيين بالجزيرة بوجه خاص حيث يحتفل الشيوعيون السوريون بالخروج مع أصدقائهم إلى الطبيعة حيث تقام المهرجانات الخطابية والفنية بهذه المناسبة العظيمة.
سأقتصر فقط على هذه العيد لأشهد على تراجع وهج الاحتفال في الجزيرة وبالتالي تراجع القيمة النضالية وهزال الناتج الجماهيري لطريقة الاحتفال. بعد أن جرى انقسام المؤتمر السادس، واغفروا لي هذه التسمية، لأن الانقسامات في الحزب رافقت مؤتمراته للأسف الشديد. وفي أول عيد عالمي ( 1أيار) الذي تلا الانقسام المذكور: يتذكر الرفاق جميعاً أنه جرى احتفال مركزي بالنسبة للجزيرة في (طر طب) قرب القامشلي اجتمع فيه الشيوعيون وهم منقسمون ولكن على منصة واحدة في الاحتفال.
وفي ثلاث كلمات للحزب «فصيل خالد بكداش - فصيل يوسف فيصل - فصيل مراد يوسف». وقتها كان أمراً محزنا ًأن يستمع الشيوعيون إلى ثلاث كلمات باسم الحزب في احتفال واحد .ولكن ما تلا كان أعظم وكما يقال شعبياً «سقا الله تلك الأيام» فقد كانت المرة الأخيرة في حياة الشيوعيين في اجتماعهم على منصة واحدة في احتفال .
إذ بعد ذلك جرف الكبرياء الزائف ووهم امتلاك الحقيقة والخيال المريض بأن الجماهير سوف تلحقنا وتترك الآخرين. وأننا كل شيء وغيرنا لا شيء.
كل ذلك أدى إلى قيام منصات خطابية متعددة في مكان واحد تمثل كل منصة فصيلاً على بعد عشرات الأمتار من بعضهم مستخفين بذلك بعقل الجماهير الشعبية التي كانت تشارك في أعياد أيار .
ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع حادثة جرت في احتفال أيار /2006/ حيث وجدت في مكان الاحتفال خيمتان بمنصتين يبلغ البعد بينهما مئة متر ونيف إحداهما لتيار قاسيون الذي أنا منه والأخرى لفصيل الرفيقة وصال .
من حيث الشكل المنصتان متشابهتان أعلام أممية حمر - أعلام وطنية - لافتات لشعارات من حيث المضمون واحدة، والأهم من ذلك جمهور متواضع (على قد حاله) وإذا واجهنا الحقيقة بشجاعة، الجمهور قليل العدد لا يتناسب مع زعمنا أن جماهير شعبية معنا تحضر الاحتفال مع العلم أن المكان في «سد مز كفت» يعج بالناس صغاراً وكباراً ويكاد الناس أن يصطدم بعضهم ببعض من شدة الازدحام.
مما أدى إلى الحادثة التي نوهت عنها قبلاً وهي ضياع حفيدتي مارسيل وإليكم الحادثة:
حفيدتي مارسيل ذات الربيع العاشر من العمر تذهب معنا في الاحتفالات منذ بضع سنوات وحتى الندوات مؤخراً. وقد فعلت كما العادة في احتفال أيار الذي لم نتخلف عنه يوماً مهما كانت ظروفنا ،وما أتعسها من ظروف - من الناحية الاقتصادية - على الأقل على الدوام، مع توصيات لها ولمن يرافقنا من خالاتها بعدم تركها تذهب لوحدها ولو لعشرة أمتار. ولكنها في غمرة الزحام والاحتفالات جازفت بالذهاب وحدها لشراء بعض الحلوى وفي رحلة الرجوع إلى الخيمة تاهت في الطريق وقادتها مخيلتها المضطربة أن تذهب إلى ماء السد لأنها تذكرت أن الماء قريب من الخيمة ولكنها في الحقيقة أوغلت في الضياع أكثر.
في طريقها وهي تبحث عن الخيمة شاهدت رجلا وزوجته وأولاده فتقدمت منه باكية وقالت له بوضوح: «عمو أنا تهت عن خيمة تيار قاسيون - دلني على تيار قاسيون أنا منهم» من محاسن الصدف أن الرجل هو أحد رفاقنا ويتعرف عليها «عمو أنت مو بنت أبو أيمن» يحضرها فتقص لنا كيف ضاعت ويحكي لنا الرفيق ما دار بينهما ويضحك الرفاق الذين عرفوا القصة وشاركوا في البحث عنها لطريقة التعارف التي اتبعتها. إلى هنا والأمر عادي ولكن بعد رجوعنا إلى البيت من مشوارنا الشاق. وجدت رفيقاً من فصيل الرفيقة وصال في انتظارنا للمعايدة والسؤال عن مجريات الاحتفال وحكينا له قصة ضياع مارسيل وفي نهاية الحديث قالت ابنتي التي كانت معنا في الاحتفال:هناك قصة أخرى مثل قصة مارسيل: قالت ونحن عند المنصة جاءت طفلة أكبر من مارسيل قليلاً تبكي وتقول خالة ما في خيمة أخرى يحتفل فيها الشيوعيون غير هذه الخيمة.
فقلت لها والحديث لابنتي: بلا يا حبيبتي هناك خيمة أخرى وأشرت إلى الخيمة الثانية فقالت الطفلة خاله وصليني إلى الخيمة الثانية فأنا من خيمة وصال (وكانت الطفلة ابنة الرفيق خور شيد أحمد عريف الحفل في الاحتفال). طبعاً أوصلوها إلى الخيمة الثانية.
بعد سماع القصة وجمت وجوماً شديداً وانكسرت نفسي وهُزمت من الداخل بعد أن تخيلت حالة حفيدتي الثانية ابنة الرفيق خورشيد وهي تبكي خائفة ووجلة مثل حفيدتي مارسيل التي أبكتني سراً عند ضياعها ولكن الآن لم أعد احتمل فبكيت على رؤؤس الأشهاد أمام أسرتي ورفيقي الجالس أمامي وقد كنت متأكداً أنه لو أن رفاقنا في الحزب الشيوعي الموحد نصبوا خيمة ثالثة وضاعت حفيدة ثالثة من بنات زيد أو عمر من رفاقنا لقالت كما قالت حفيدتاي الأولى والثانية «أنا من جماعة يوسف، خذوني إلى خيمة يوسف».
في تلك الليلة شعرت بالمهانة وأنا شيوعي على أعتاب العقد السادس من العمر وأحسست بالإحباط يلتهم كل ما تبقى مني .حقاً إن الشيوعيين صاروا مبعث قلق ووجل أولادهم وأحفادهم. أيكونوا حقا سبب ضياع أجيالهم اللاحقة. ألا يمكن أن يحافظوا أو أن يبعثوا الطمأنينة في نفوس أحفادهم وأولادهم ونحن في هذه الحالة تشاء الصدف أن يدخل علينا رفيق أخر من فصيل الرفيق يوسف فيصل وهو من رعيلنا وكان مسافراً إلى دمشق وعندما رآني على هذه الحال ولا أدري ماذا قرأ في وجهي حينها.
بدأ بمواساتي وطلب مني (طولة البال والتجمل بالصبر بعد أن عرف سبب انزعاجي وهو يعرف أنني مريض ضغط وسكري منذ عقد ونيف ويعرف كذلك أن راتبي الدوائي اليومي اثنتي عشر حبة دواء مختلفة في الوجبات الثلاث وقد ألح كثيراً أن أضبط نفسي.
وبعد أن أزفت ساعة سفره وأراد الخروج ألح مجدداً علي بالصبر فقلت له أتخاف علّي يا أبو جون؟ قال بكل جدية: طبعاً يا أبو أيمن، أخاف عليك فنحن رفاق. وأنا أقول أرجوكم أيها الشيوعيون السوريون ثوبوا إلى رشدكم واسعوا جادين إلى وحدة حزبكم لعّل الأجيال القادمة تحتفظ لكم بما يليق بكم من التقدير والاحترام .
وأرجو صادقاً أن لا يكون عنوان رسالتي القادمة في أول أيار القادم إذا أحياني الله حتى ذلك التاريخ :
(كل أيار وأنتم..............)