من أجل توسيع الحوار النقابي: لا يجوز الخلط بين العمل النقابي والسياسي، والمطلوب تغيير أساليب العمل
إن من يخاف النقد أو يخشاه لا يمكن أن يكون حريصاً على الحقيقة وانتصارها. والمخلصون للطبقة العاملة هم الذين ينتصرون للحوار وللحقيقة، ولا يصح ممارسة جزء من الحوار دون الجزء الآخر منه، والجزء الأهم يرتبط بالبيت الداخلي، أي داخل الحركة النقابية، ومن الخطأ التصور أن الحديث باتجاه البيت الداخلي يؤدي إلى التقليل من شأن المنظمة النقابية، بل هو دليل حيوية الحركة النقابية التي تشكلت قبل تأسيس معظم الأحزاب السياسية، لذلك فإن من الأخطار الكبيرة التي تهدد النقابات، احتواءها ضمن أحزاب، وحتى الأحزاب الاشتراكية والتقدمية، وحتى إن استفادت من تجارب هذه الأحزاب. أما أن يهيمن حزبٌ على النقابة، والشيء نفسه يقال عن تدخل الإدارة، فهذا يعني تحجيمها، لأن النقابة تضم في صفوفها عمالاً من كل التيارات السياسية.
لاشك أن طبيعة العمل النقابي في سورية كان يجب أن تتغير بعد عام 2005، والتحولات الاقتصادية وتبني اقتصاد السوق. فالنقابات قبل اقتصاد السوق جزء من القيادة السياسية، أو أحد أجنحتها «النقابية السياسية بديلاً للنضال المطلبي»، بعد ذلك كان يجب أن يتغير المشهد، كان يجب أن تتحول النقابات إلى النضال المطلبي الحقيقي، بعد أن طويت الصفحة الاشتراكية أو التحول نحو الاشتراكية في سورية، وأعطي الدور الهام للقطاع الخاص وللاستثمارات الخاصة، مع تجاهل أو إنهاء القطاع العام والتعاوني والمشترك وعرض أكثر شركاته على الاستثمار، وتقليص دور الدولة في جميع المجالات، والانفتاح وتحرير التجارة، وصدور تشريعات على صعيد العمل والعمال، أبرزها:
ـ تعديل قانون العمل في القطاع الخاص والذي أثار جدلاً كبيراً بين الحكومة واتحاد العمال واعتبرته بعض القيادات النقابية انتقاصاً من حقوق عمالية مكتسبة، فيما اعتبرته الحكومة وبعض القيادات النقابية متوازناً بين العمال وأصحاب العمل.
وكان من المقرر تعديل قانون أكثر أهمية وهو قانون التأمينات الاجتماعية، وقبل إقالة الحكومة السابقة بشهر سأل رئيس الوزراء وزيرة الشؤون مؤكداً على إنجاز التعديل بأسرع وقت من أجل تشجيع الاستثمار، كما قال، وقد قوبل هذا الطرح بمعارضة شديدة من النقابات، كما قوبل تعديل قانون العمل بالمعارضة نفسها، ورغم ذلك صدر قانون العمل كما أرادته الحكومة، وكذلك كان سيصدر قانون التأمينات لو بقيت الحكومة السابقة.
اتجهت سورية نحو الليبرالية بقرار سياسي، وحكماً فإن التشريعات ليبرالية، وهنا تقف الحركة النقابية عاجزة عن مقاومة أي ضغوط توجه إليها، ويختلط عملها بين السياسي والمهني، وباتت تتلقى الضربات من السلطة من خلال تحجيم دورها والانتقاص من حقوق عمالية مكتسبة.
لماذا تقف الحركة النقابية عاجزة عن التصدي؟
لأنها باتت منظمة ذات اتجاه سياسي، وغالبية أعضاء قياداتها يتم تعيينهم دون انتخاب، وظهر واضحاً عدم التمييز بين التنظيم النقابي والتنظيم الحزبي وتم الخلط بينهما في المجال التنظيمي والفكري والعمل اليومي المطلبي لذلك تم عزل المنظمة النقابية عن قواعدها وتعرضت نتيجة ذلك إلى الضعف والهزال، وحدث ذلك أيضاً في الخلط بين العمل الإداري والعمل النقابي من خلال تواجد ممثلي العمال في المجالس واللجان الإدارية، وتمثيل العمال في هذه المجالس هو تمثيل بقوة القانون أي أن النقابي عضو أصيل في المجلس أو اللجنة ويترتب على ذلك أن له ذات الحقوق ويتحمل ذات المسؤوليات التي يتحملها مدير عام المنشأة.
وقد تلقت الحركة النقابية الضربة القاصمة بصدور قانون المجالس واللجان الذي يقول في البند الرابع منه «إن التمثيل العمالي لا يفترض التناقض أو المجابهة مع أعضاء الإدارة الآخرين، بل يتطلب إقامة أفضل أوجه التعاون معهم، لأن النقابي لا يشكل وإياهم جبهتين متعارضتين، فهو وهم أيضاً عاملون بأجر وأن اختلفت مواقع عملهم، جميعهم يعملون في إطار قوانين وأنظمة واحدة تخضع لها نشاط التجمع».
انطلاقاً من ذلك تحول بعض النقابيين إلى إداريين في المؤسسات وتناسوا مهماتهم النقابية وتجاهلوا كونهم ممثلي العمال في إدارة هذه المؤسسات، وأدى ذلك إلى تناسي القضايا المطلبية للعمال وإلى صمت البعض عن فساد بعض الإدارات من خلال الحصص والمكاسب، وقد أشار رئيس الوزراء السابق في مجلس اتحاد العمال بصراحة إلى ذلك، مختبئاً خلف إصبعه، وحمل القيادات النقابية المسؤولية في سكوتهم عن الفساد في مؤسسات القطاع العام، واتُّخِذ في القيادة قراراً بإبعاد ممثلي العمال والفلاحين عن اللجنة الاقتصادية في القيادة، وهي المطبخ الاقتصادي في سورية، ويبدو أنها كانت مقدمة لإلغاء تمثيل العمال في كافة اللجان.
مع هذه الفجوة تسلل القطاع الخاص إلى مراكز القوة، وسيطر سيطرة كاملة على التشريع، وانعكس ذلك على ميدان العمل وعلى حقوق العمال، فقانون العمل في القطاع الخاص كان «تسوية» بين حقين أو مصلحتين للعمال ولرأس المال، في حين يكتنف الغموض الموقف النقابي.
ـ هناك اتجاه في الحركة النقابية يتجسد في الميل إلى المعارضة لنهج الحكومة بعد تبني اقتصاد السوق، ويتمثل في مجالس اتحاد العمال، ولكن دون مواقف حاسمة، واتجاه آخر مؤيد للقيادة وللحكومة دون قيد أو شرط، ويشارك هذا الاتجاه في صنع القرار، وكلا الاتجاهين خاطئ، ومن خلال هذين الاتجاهين تعتاش وتنتعش الطفيلية والرأسمالية، وتصبح النقابات في خطر مع السلطة السياسية.
كيف يستعيد التنظيم النقابي دوره ومواقعه؟
عندما تدرك القيادات النقابية أن تبوؤها المكانة القيادية في النقابات لا تمثل الأحزاب وإنما تمثل كل العمال بغض النظر عن انتسابهم الحزبي ووجهة نظرهم السياسية، عند ذلك يتعزز دور الحركة النقابية ويقوى ويشتد ساعدها. وإن تحالف النقابات مع القوى السياسية والأحزاب الوطنية التقدمية يجب ألا يعني مطلقاً عدم كشف الأخطاء والنواقص في أجهزة السلطة والوقوف بجرأة ضد الاتجاهات اللاديمقراطية وضد الذين يعملون على سلب حقوق العمال، الموقف الخاطئ هو التبعية للسلطة القائمة، بدلاً من اتخاذ الموقف المتفاعل معها، والمبني على أساس المشاركة بحيوية، ولا تجلب التبعية غير الضرر الفادح للنقابات ولمكاسب الطبقة العاملة، وأيضاً الضرر الفادح للسلطة وللأحزاب المتحالفة.
قوة الحركة النقابية وفاعليتها لا تتم من خلال الشراكة مع الحكومة في الخندق الواحد، لأن هناك أكثر من خندق، ولا تتم من خلال اللقاءات مع الحكومة و(بوس اللحى) وإنما تتحقق من خلال تفاعل القواعد النقابية مع القيادات، ومن خلال كسب عمال القطاع الخاص للانتساب إلى المنظمة النقابية، وهذه مسؤولية النقابات وليست مسؤولية الحكومة، ومن خلال رسم الأهداف النقابية ووضع استراتيجية عمل تتناسب مع المرحلة الجديدة التي تمر بها سورية. ويتعزز دور الحركة النقابية عندما تقف بحزم ضد المظاهر البيروقراطية في الحياة النقابية، ومكافحة الفساد والميول الارستقراطية وروح التعالي على العمال، ومكافحة ميول الاستئثار بالعمل النقابي. وفي كل الأحوال، وكما انتقلت سورية من اقتصاد إلى آخر، فإن مسؤولية النقابات تغيير أساليب العمل جملة وتفصيلاً، إلى النضال المطلبي الجاد.