عادل ياسين عادل ياسين

هل يوجد حراك في الطبقة العاملة السورية؟

اتسم نضال الطبقة العاملة السورية منذ أن أسَّست نقاباتها الأولى وحتى بدايات العقد السادس من القرن الفائت، بحراك مستمر، سياسي ونقابي على الأرض، جرى التعبير عنه بالاعتصامات والإضرابات الواسعة التي قام بها العمال دفاعاً عن حقوقهم المنتزعة من أرباب العمل، أو من أجل حقوق جديدة تبرز هنا أو هناك بفعل تطور الحياة ومتطلباتها، وتطور الوعي النقابي والعمالي بضرورة تحسين مستوى المعيشة وتحسين شروط العمل، حيث عملت البرجوازية الصاعدة مراراً وتكراراً على حصار الطبقة العاملة بقوانين وتشريعات وممارسات تحدُّ من إمكانيات العمال وقدراتهم على الدفاع عن حقوقهم ومكاسبهم عبر الحوار المتكافئ، حوار الند للند.

العرض والطلب وقيمة قوة العمل
كان يطغى دائماً على العلاقة بين العمال وأرباب العمل لغة فرض الشروط من أرباب العمل، باعتبارهم الطرف الأقوى، مدعومين بالقوانين التي هي حصيلة موازين القوى السائدة، فتخرج تلك القوانين من أروقة البرلمانات لصالح القوى المهيمنة وممثليها المعبرين عن مصالحها، وبالضد من لمصلحة العمال المجبرين على القبول بها، بسبب البطالة والفقر، وتحكُّم قانون السوق الرئيسي (العرض والطلب)، والذي يتم عبره تحديد مستوى الأجور وقيمة قوة العمل التي يريد أرباب العمل شراءها من العمال.
إزاء هذه الأوضاع والشروط غير العادلة التي تُفرَض على العمال، كان لابد أن يجد العمال الأشكال والطرق والوسائل الكفيلة التي تحسِّن من أدائهم النضالي، وتطوره باتجاه الدفاع عن حقوقهم وانتزاع المزيد منها، وكان سلاحهم في ذلك تطوُّر أداتهم التنظيمية وصلابتها ووحدة إرادتها، ألا وهي النقابات، التي تأسست في غمرة النضال الوطني والطبقي، واكتسبت شرعية تمثيلها للطبقة العاملة وقيادتها لها من خلال انخراط قيادتها في النضال المباشر جنباً إلى جنب مع العمال.
وفي هذا السياق فقد ساعد الطبقةَ العاملة وحركتَها النقابية بتطوير نضالها، الدورُ الخاص الذي لعبته الأحزاب الوطنية والتقدمية بنقل الوعي للطبقة العاملة مسلِّحةً إياها بخبراتها التي اكتسبتها في مجرى الصراع الوطني والطبقي الذي كانت تخوضه تلك القوى، وعلى رأسها الشيوعيون السوريون، بمواجهة الاستعمار الفرنسي والقوى البرجوازية الصاعدة التي عملت على قطف ثمار الاستقلال وتجييره لحسابها الخاص.
إن التلاقح الذي جرى بين الطبقة العاملة والقوى التقدمية قد عزز دور الحركة العمالية في المجتمع، وأصبحت إحدى القوى الأساسية المنوط بها مهام كبيرة وعلى رأسها الدفاع عن الوطن وحماية الاستقلال الوطني والقرار الوطني المستقل، ومازالت هذه المهام جزءاً أساسياً من نضال الطبقة العاملة السورية، يجري التعبير عنه الآن بطرق وأشكال مختلفة، في ظل انكفاء وتراجع دور الأحزاب التقدمية عن الانخراط المباشر في الدفاع عن حقوق العمال ومكاسبهم.
 
أسباب تبني «النقابية السياسية»

لقد جرى تراجع واضح على مدار العقود السابقة، واستمر هذا التراجع في فعالية النقابات ودورها المنوط بها، خاصة عند تبنيها لشعار «النقابية السياسية» وتغييب النضال المطلبي، حيث أدى هذا التبني إلى هيمنة الحزب الواحد والقائمة المغلقة الواحدة اللتين نتج عنهما تقديم قيادات وكوادر نقابية متوافقة مع الشعار المتبنَى، وتدين بولائها وحركتها وسلوكها لمن قدَّمها وأوجدها في هذه المواقع، وليس لمن المفترض أنها تمثلهم في المواقع الإنتاجية التي توسعت أفقياً وازداد بموجبها تعداد العمال حتى أصبح عدد العمال حتى المؤتمر الخامس والعشرين للنقابات، أي في عام 2007، ما يقارب المليون ونصف المليون عامل في القطاع العام، وضعف هذا العدد في القطاع الخاص الذي بدأ الرهان عليه تدريجياً منذ التسعينيات من القرن الماضي، وأوكِلت إليه مهمة حل الأزمات المستعصية، التي تراكمت واتسعت بفعل تبني سياسات اقتصادية نقلت البلاد من موقع إلى آخر، وبشكل تدريجي ومدروس، حيث مست تلك السياسات الاقتصادية مباشرةً مصالحَ وحقوق الطبقة العاملة السورية، إن كان من حيث مستوى أجورها، التي كانت ومازالت في تفاوت كبير مع الأرباح المتحققة، مما انعكس مباشرة بشكل سلبي على المستوى المعيشي للطبقة العاملة، بسبب ضعف أجورها وعدم تناسبها مع الارتفاع المستمر للأسعار التي أفقدت الأجور قيمتها الحقيقية، وزادت من إفقار العمال، وبالمقابل أدت السياسات الاقتصادية الليبرالية لأن تطفو على السطح طبقة جديدة من الأغنياء الذين اغتنوا بفعل عمليات النهب الواسع والفساد الكبير الذي أوجدت له السياسات الاقتصادية المناخ المناسب كي ينمو ويتطور حتى أصبح خطره على الاقتصاد الوطني وعلى الأمن الوطني يعادل خطر العدوان المباشر، ويماثله بالنتائج والآثار على بنية المجتمع وعلى سورية جغرافياً.
 
آثار التحولات الاقتصادية والاجتماعية

إذاً، فجملة ما جرى خلال العقدين الماضيين من تحولات اقتصادية واجتماعية قد فعلت فعلها من حيث نتائجها المباشرة على الطبقة العاملة والتي منها:
1ـ ضعف شديد في أجورها الحقيقية وتآكلها.
2ـ انخفاض مستوى معيشة العمال بسبب ارتفاع الأسعار الجنوني.
3ـ الاعتداء على حقوق الطبقة الكادحة وإنكار حق العمل الذي كفله الدستور السوري، وقد تسبب ذلك بتسريح المئات من العمال في القطاع العام تحت حجج مختلفة، ما أدى إلى ارتفاع نسب العاطلين عن العمل.
4ـ حسب البيانات الصادرة، هناك 43 شركة عامة خاسرة، وبسبب هذا التخسير يفقد العمال حوافزهم الإنتاجية، بالإضافة لتخفيض المبالغ المخصصة للعلاج والتداوي من ميزانيات الشركات، وإلغاء العديد من المزايا التي حصل عليها العمال.
5ـ توسع القطاع الخاص في استثماراته التي بلغت %83 من حجم الاستثمارات للأعوام (2006، 2007، 2008) مقابل %17 للقطاع العام، وهذا أدى إلى مضاعفة أعداد العمال العاملين في هذا القطاع، حيث أصدرت الحكومة قانون العمل الجديد رقم 17 الذي جاء ملبياً لمصالح المستثمرين في القطاع الخاص، ومطلِقاً أيديهم في تسريح العمال وفقاً للمادتين 64 و 65 من القانون.
6ـ عدم حصول العمال في القطاع الخاص على الزيادات الطارئة على أجورهم، وحرمانهم من كثير من الحقوق الأخرى، وأهمها تسجيل العمال في التأمينات الاجتماعية، وحقهم في الزيادات الدورية والإجازات المختلفة والطبابة... إلخ.
7ـ في ظل الأحداث الجارية وما قبلها، تم تسريح أعداد كبيرة من العمال، وحسب جريدة تشرين فقد بلغت أعداد العمال المسرحين منذ بداية عام 2011 حتى الآن ما يقارب 41 ألف عامل مسجلين بالتأمينات، وكان نصيب عمال دمشق وريفها من التسريح 18800 عامل، وحلب 6000 عامل.
 
التساؤلات المشروعة للطبقة العاملة

إن واقع الطبقة العاملة الحالي، بسبب ما تعرضت من هجوم على حقوقها ومكاسبها خلال الأعوام السابقة، قد جعل العمال يطرحون تساؤلات كثيرة حول المسببات، وهم بهذه التساؤلات يتوصلون إلى إجابات يستنتجونها من مشاهداتهم اليومية، ومن خبرتهم المتراكمة في طرح قضاياهم ومطالبهم التي في معظمها لا تلقى الإجابة بل التسويف والتأجيل، وهذه تؤكدها المداخلات النقابية في المؤتمرات والاجتماعات النقابية، والتي في معظمها تطرح قضايا مطلبية وحقوقية للعمال جرى إلغاؤها بالرغم من المطالب المتكررة التي يتقدم بها الكوادر النقابية في كل مناسبة وحدث نقابي، ولكن لا حياة لمن تنادي.
إن تراكم القضايا المطلبية للعمال عاماً بعد آخر دون حلول حقيقية، أوجد عند العمال حالة متزايدة من الاستياء والتذمر، كان يجري التعبير عنها أحياناً بالإضراب المحدود، كما حصل في بعض الشركات الإنشائية عندما كانت أجورهم لا تدفع لهم في أوقاتها بل تؤجل إلى شهرين أو ثلاثة، أيضاً كان العمال يتجمعون في مبنى الاتحاد العام للنقابات أو أمام إدارة شركاتهم أو أمام مبنى المحافظة، كما جرى عند عمال مرفأ طرطوس. أما عمال القطاع الخاص فهم محكومون بشروط عمل قاسية، وبقوانين جائرة تحد من حركتهم الاحتجاجية العلنية، ومع هذا فقد جرى في أكثر من معمل في القطاع الخاص اعتصامات داخل المعامل وإضرابات في مواقع أخرى، مطالبة بزيادة أجورهم وحقوقهم التي تُسلب منهم جهاراً نهاراً، وهذا الحراك العمالي البسيط في شكله والعميق في مضمونه فإنه يؤسس لموقف عمالي عام سيوحد الحركة العمالية في نضالها اليومي التي تغيبُ عنه تقريباً قيادة الحركة النقابية، التي من المفترض أنها ترعاه وتقوده باتجاه تعديل موازين القوى المختل تماماً لمصلحة رأس المال وقوى السوق المتحالفة في مصالحها وأهدافها مع من تبنى السياسات الاقتصادية الليبرالية، وعمل على تطبيقها فكانت النتائج المترتبة كارثية على الشعب السوري، ومنهم الطبقة العاملة السورية، حيث أسست تلك السياسات لما نشهده من حراك شعبي واسع، له مطالبه المشروعة والمحقة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
لماذا الحراك العمالي الصامت والعلني يجري

بعيداً عن النقابات والأحزاب؟

قد يقول قائل إن الحراك العمالي الذي تحدثنا عنه ليس موجوداً بأشكاله العلنية كالإضرابات والاعتصامات، وهذا صحيح، ولكن من قال إن الحراك هو هذا الشكل العلني فقط، بل الحراك الأعمق هو ما يدور داخل الحركة العمالية في المواقع الإنتاجية في القطاعين العام والخاص، حول قضاياهم المختلفة، وخاصة عن دور الحركة النقابية المسايرة في مواقفها للحكومة ولأرباب العمل في وقت واحد، والدليل على ذلك موافقتها على قانون العمل الجديد الذي كان للحركة النقابية موقفاً معارضاً منه أثناء نقاش مواده خارج مجلس الشعب، ووافقت أثناء التصويت عليه ما ترك أثراً واضحاً على عمال القطاع الخاص، وهذا ما عبر عنه ممثلو عمال القطاع الخاص أثناء انعقاد المؤتمرات النقابية، وفي الحوارات الدائرة مع الكثير من العمال.
 في النهاية فإن ملخص القول إن الحركة العمالية والنقابية قد مرت بمرحلتين أساسيتين:

ـ المرحلة الأولى:

منذ تأسيس أول نقابة وانفصالها عن النقابات المشتركة مع أرباب العمل وتأسيس نقابات مستلقة لها برنامجها ومطالبها الواضحة، ولها حركتها على الأرض المعبرة عن مطالبها الاقتصادية والسياسية، مع دور خاص للأحزاب التقدمية دون تدخل في شؤونها وحركتها واستقلاليتها، مكتسبة الحركة النقابية والعمالية موقعاً متقدماً وأساسياً في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ـ المرحلة الثانية:

منذ الستينيات وحتى الوقت الحاضر، وقد جرى تبدُّل واسع في شعارتها وآليات عملها وخطابها، وتم احتواؤها وتغيير حركتها، وأصبح موقف الحركة النقابية مرهوناً لجهة واحدة تملي عليها ما يجب عمله وما يجب قوله، ما طبع هذه الحركة بطابع واحد على الرغم من وجود ممثلي الأحزاب في أطرها القيادية، وهذا أضعف العلاقة بين الحركة النقابية والحركة العمالية، وعمق الهوة بينهما بحيث أصبحت هذه الكوادر تمثل أحزابها في النقابات وليس العكس، وأصبح الهم الأساسي هو الركض وراء المقاعد التي سيحتلها هذا الحزب أو ذاك، وليس النضال من داخل الحركة العمالية ومعها. لذا، وللأسباب السابقة العميقة يتكون الحراك العلني والصامت للحركة العمالية خارج إطار النقابات والأحزاب، وهذا يضعف وحدة الحركتين، رغم أنه مطلوب بشدة الآن، بل وأكثر من أي وقت مضى وحدتهما.