مدينة عدرا العمالية: قف.. ممنوع الاقتراب والتصوير.. المنطقة ملوثة!
بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على تنفيذها، مازالت مدينة عدرا العمالية المدينة المنسية التي لم ترتق بعد إلى مستوى السكن اللائق والمخدم، رغم أن ثلاثين ألف أسرة معظمهم من أبناء الطبقة العاملة السورية، اضطروا للسكن فيها بعد فشلهم في إيجاد مأوى لهم ولأولادهم.
المنطقة تصلح لأي شيء عدا السكن، إذ تحدها الملوثات من كل الجهات: من الشرق معمل الإسمنت، ومن الغرب مياه الصرف الصحي ومنشآتها المهتلكة، ومن الشمال مقالع الرمل وكساراتها المدوية، ومن الشمال الغربي خزانات البترول الرئيسية ومحارق وزارة الدفاع..
والحقيقة أن المدينة جيدة ومنظمة من حيث مقاييس المدن والتجمعات السكنية، لكن مشكلتها الكبرى في موقعها.. حدثنا أحد سكانها قائلاً: «إن المبالغ التي نصرفها سنوياً على الطبابة تكفي وحدها لجعل المدينة زاهية بكل شيء، ولكن ما الفائدة في ظل هذا الجو الملوث؟ كان على المسؤولين توفير مصاريف الشبابيك المغلقة طوال /24/ ساعة لأن مجرد فتحها يعني استفراغ كل من في الداخل».
الطالب الجامعي أنس قال: تعلمنا في الدراسة والحياة أن اختيار المدن يقوم على أساس شروط صحية وبيئية وجغرافية عدة. في هذه المدينة لا يوجد شيء من هذا، وأستطع القول إن الذي أصدر قراره ببناء مدينة ضمن هذا الثالوث المرعب والخطير على الصحة العامة، وخاصة على الذين قدموا عمرهم وحياتهم من أجل بناء الوطن ورفعته، لا يمتلك أدنى مقومات الحس الوطني وقد ارتكب جريمة بحق هؤلاء الذين مازلنا نسميهم «اليد العليا».
من المفارقات العجيبة أن الموقع الذي بنيت عليه منشأة الصرف الصحي هو المكان نفسه الذي تغنى فيه الشعراء قديماً وحديثاً، فتحول من موقع باعث للإلهام والشعر إلى منطقة للتلوث والروائح الكريهة.
المحطة كما هو معروف تستوعب /450/ ألف م3 من المخلفات السائلة، إلا أن ما يصل إليها هو /350/ألف م3 . وحسب القائمين عليها، فإن الباقي يتحول ليروي الأراضي الزراعية في كل من مدينتي حرستا ودوما، لتزيد في تسميم ما يأكله الناس!.
وحسب مطلع على الخطة، فضّل عدم ذكر اسمه، فإنه «يوجد في المحطة ثلاثة محركات غازية كبيرة منها الرئيسية لتوليد الكهرباء والغاز المنطلق من (الخبث) وذلك من أجل الاستفادة منها في تأمين وتوفير وقود ذاتي، وثانياً بالقضاء على الروائح وآثارها اللامنتهية، ولكن للأسف المحركات الثلاثة عاطلة عن العمل، مع العلم أن عمل واحد منها يكفي لإدارة المحطة ولعب الدور الرئيس في التنقية».
وهذا ما يوضح أن المشكلة الأساسية تكمن في المخلفات الصناعية الكيميائية الناتجة عن مخرجات الصناعات الغذائية. والسؤال: كيف يسمح بإعادة استخدام تلك المياه في الري الزراعي الذي يشيع سماً.
إن كل ما يجري في المحطة في الظرف الحالي هو سوء التخطيط في الإدارة التي تعترف بكل شيء ولا تقوم بإصلاح أي شيء!! والسبب الثاني يكمن بعدم توفر القطع التبديلية والذي يتم تفاديه بنقل القطع الصالحة من محرك لآخر، حتى وصل الأمر بالمسؤولين فيها إلى استنفاد كل فرص التبديل وإلى تعطيل المحركات الثلاثة منذ أكثر من شهرين.
تجفيف عالريحة
أول ما يستقبل به القادم إلى دمشق في مدخل المدينة العمالية هو الرائحة التي تزكم الأنوف بسبب تجفيف الحمأة التي تباع لاحقاً كسماد عضوي للفلاحين، مع العلم أن هناك مراوح وشفاطات لسحب الخبث منه بطرق فنية. وحسب أحد العاملين فإن السبب هو كثرة المياه المالحة، إذ لا يتم سحب الخبث لوحده، بل يرافقه سيل من المياه الآسنة، فتنشر الروائح على طول المدينة وعرضها بعد تعرضه للتجفيف الشمسي بدل أن يتم ذلك ميكانيكياً، إلا أنهم في أغلب الأحيان يقومون بنقلها دون انتظار الجفاف الكامل مما يزيد من تكاثر الذباب وبقية الحشرات المؤذية..
أحد السكان قال: أصبح (صيد) الذباب وقتله أهم وسائل التسلية لدينا، وأحياناً نكرم في العائلة الشخص الذي يقتل ذباباً أكثر...
من فوق ضيعتنا
إن سحابة الغبار المنطلق من فوهات معامل الإسمنت تغطي مساحة المنطقة بأكملها، وأصبحت طبقات كثيفة من الغبار تغطي الشجر فيها، كما أنها تقتحم البيوت حتى وإن أغلقت جميع النوافذ والأبواب، وتزداد كثافة الغبار في الساعة الواحدة حيث ينفث المعمل أكثر من سبعة أطنان من الغازات السامة، والفلاتر التي تستخدم من أجل التنقية مضى عليها أكثر من ثلاثين عاماً وأصبحت مهتلكة، ومع ذلك تعمل بالدفش رغماً عنها حتى لا يتعطل الفرن عن الإنتاج، والحالة الوحيدة التي يتوقف فيها المعمل عندما يكون هناك زيارة من لجان البيئة والصحة التي تراقب عمل الفلاتر وجاهزيتها. وقد بينت تلك اللجان في أكثر من مناسبة أن نسب التلوث من معمل الأسمنت وحده أكثر من ثلاثة أضعاف المسموح به، ومع ذلك لم يتحرك المسؤولون وكأن الموضوع لا يعنيهم، مع أن الأمراض زادت نسبة ونوعاً مثل (السرطانات، ضيق التنفس، تحسس، التهاب الجلد الربو الذي أصاب به معظم أطفال المدينة)!!
محارق وغازات
حتى المحرقة الموجودة على تخوم المدينة التابعة لوزارة الدفاع لم تبخل في تقديم نصيبها من المواد السامة والمشعة في كل الأوقات ودون إنذار مسبق بالحرق، فالمحرقة تنفث بالإجمالي ما مجموعه حوالي مئة مادة كيماوية تدخل في العديد من الصناعات المعدة لأغراض الجيش حيث تندمج رائحة تلك المواد مع رائحة مياه الصرف الصحي وغبار الإسمنت لتشكل ثلاثياً قاتلاً بكل المواصفات.
النقابة وحق الدفاع
بعد أن طرق الأهالي كل الأبواب الحكومية وجميع الوسائل الإعلامية، ولم يجدوا من يؤازرهم ويحل مشاكلهم، استنجدوا بنقابات العمال كجهة راعية للعمال وأسرهم، وذكرت النقابية بلسم ناصر في أحد الاجتماعات النقابية أن المدينة العمالية أصبحت سجناً صغيراً لسكانها ولو لم تكن في موقعها هذا، لهجم المسؤولون عليها من كل الوزارات، وجعلوها فيللاً لهم، إلا أنهم تركوا العمال في هذا الجحيم وانتقلوا إلى الديماس وقدسيا حيث الهواء النقي.
رئيس اللجنة النقابية في أحد المعامل يقول: ما باليد حيلة وحتى الدعم الغذائي المضاد لعدة أمراض تم وقف توزيعه عنهم منذ زمن بعيد، وهناك دواء يتم توزيعه على العمال ضمن أكياس مغلقة دون أي شرح أو تفسير لمضمونه أو مفعوله أو أسباب إعطائه، ويجري ذلك بالخفاء، لكن معظم العمال يتوقعون ارتباطه بأمراض الكبد وما شابه ذلك.
عندما يفقد الأمل
عندما يفقد المواطن الأمل في تحقيق ما يصبو إليه يفقد الثقة بكل ما حوله، فالحكومة على علم ودراية بكل ما يعانيه سكان عدرا العمالية من أوبئة وأمراض، والمسؤولون يعلمون ذلك ومدراء المحطة ومعمل الأسمنت ورئيس بلديتها على علم ويقين ولديهم كل الإحصائيات والأرقام التي تؤكد الخلل، ومع ذلك الكل يدير ظهره ويترك حل المسألة للجهات الأخرى.
والسؤال إلى متى ينتظر هؤلاء العمال الحلول التي تنقذهم من كل الأمراض والمشاكل التي ذكرناها؟ وهل صحيح أن معامل الدباغات أيضاً ستنقل إلى عدرا لتزيد من الكارثة وإعدام ساكنيها وهم أحياء؟ إنها أمور بحاجة إلى حلول بالسرعة القصوى قبل أن نفقد يدنا المنتجة.