بصراحة: العمالة الفائضة.. هل هي فائضة حقاً؟!
تفتق الذهن الحكومي (التطويري) عن وجود عمالة فائضة في شركات القطاع العام، في أهم قطاعين من القطاعات الإنتاجية وهما الغزل والنسيج، والشركات الإنشائية، ويأتي هذا الإبداع الحكومي في سياق خطة قضم هذه الشركات وتصغيرها إلى أبعد حد ممكن على طريق التخلص منها، عوضاً عن إيجاد الحلول العلمية الوطنية لتخليص هذين القطاعين من أمراضهما التي استشرت لعشرات السنين بسبب النهب والفساد، وما نتج عنهما من خسارات كبيرة دون محاسبة أو معاقبة من تسببوا بهذه الكوارث.. إذ تقدم الحكومة اليوم على إجراءات تفاقم أزمة الشركات أكثر، وتفقدها أهم عنصر من عناصر نجاحها وتطورها ألا وهو العمال المهنيون الذين عملوا في مشاريع إنشائية كبيرة أكسبتهم خبرة ومعرفة، لا يمكن تعويضها بسرعة.
لقد جرى التفريط بهؤلاء العمال ببساطة، وتحويلهم في أماكن عملهم الجديدة المنقولين إليها إلى مستخدمين، وبعضهم إلى سائقين أو حراس ليليين، وهذه أعمال لا تمت لعملهم الأصلي بصلة، ما يؤدي إلى خسارة خبراتهم المهنية المكتسبة في أماكن عملهم الجديدة.
يطرح هذا الإجراء الحكومي أسئلة كثيرة حول الجهة المستفيدة من تفريغ الشركات الإنتاجية من العمال المهرة؟ هل هذا الإجراء لمصلحة الشركات التي نقل العمال منها؟ وهل لن يكونوا فائضين مرة أخرى في المواقع التي نقلوا إليها؟ وهل ذلك مقدمة لتقول الحكومة لاحقاً ووشيكاً أن هؤلاء العمال لا حاجة لنا بهم، وأصبحوا يشكلون عبئاً على الإدارات الجديدة؟ والسؤال الأهم هل هي عملية تسريح ولكن بشكل متدرج وعلى مراحل، لكي لا تتهم الحكومة صراحة أنها تسرح العمال؟!
الغريب في عملية النقل الواسعة لآلاف العمال أنها تتم تحت أنظار النقابات العارفة مسبقاً بالأضرار الكبيرة التي ستتعرض لها الشركات التي يجري نقل عمالها تحت دعوى أنهم عمال فائضون ولا حاجة لهم، في الوقت الذي تدعي الحكومة أنها تقوم بتأمين الكثير من جبهات العمل للشركات الإنشائية، في الداخل و الخارج مثل السودان وليبيا ولبنان وغيرها من الدول التي تقول الحكومة أنها أمنت جبهات عمل فيها. ألا يتطلب تنفيذ هذه المشاريع الكبيرة وجود عمال مهنيين مارسوا العمل في المشاريع واكتسبوا خبرة العمل فيها؟ أم أن المطلوب إرضاء شركات القطاع الخاص التي يجري إعطاؤها الكثير من الأعمال والتعهدات لتنفيذها، بينما عمال الشركات العامة دون عمل، فتعتبرهم الإدارات فائضين؟؟
يبدو أن هذا هو بيت القصيد لتوجهات الحكومة التي تعتبر القطاع الخاص هو خشبة الخلاص اقتصادياً واجتماعياً، حتى وإن كانت الوقائع تؤكد عكس توجهات الحكومة وبرامجها الإصلاحية، التي تدفع الشركات والمراكز الإنتاجية للقطاع العام إلى المزيد من الأزمات وتجعلها عاجزة عن التشغيل الأمثل لهذه الشركات والمراكز، دون أن يثبت القطاع الخاص أن بإمكانه أن يكون البديل.. ومع ذلك يتم تعهيده المشاريع التي لا يملك لا الإمكانيات ولا الخبرة لتنفيذها، متناسية أن الشركات الإنشائية في القطاع العام هي التي استطاعت تنفيذ العشرات من المشاريع الإستراتيجية كالطرق والجسور والأنفاق والسدود بخبرة عمالها التي تعتبرهم الحكومة الآن، فائضين يجب التخلص منهم.
إن ما يجري هو خطوة نحو تشريد ونقل مئات وربما آلاف العمال الجدد تحت دعوى العمالة الفائضة وعدم الجدوى الاقتصادية، وهذا من الحلول الأكثر سهولة من وجهة نظر الحكومة..
إن الإجراءات الحكومية التحديثية التي عملت على تنفيذها في الشركات الإنشائية، أوصلتها إلى أوضاع لا تحسد عليها، لدرجة أن هذه الشركات تتأخر في دفع أجور العمال مطلع كل شهر كما هو معتاد، ناهيك عن التخلف في دفع أموال العمال في التأمينات الاجتماعية واشتراكات النقابة والوصفات الطبية وغيرها من الحقوق، حتى أن ديون النقابات على هذه الشركات بلغت ملايين الليرات السورية.
لقد حرمت الأوضاع التي وصلت إليها الشركات الإنشائية العمال من حقوقهم في التعويضات، فالحوافز الإنتاجية وطبيعة العمل والوصفات الطبية وبدل اللباس وغيرها... مما دفع النقابات والعمال للاحتجاج أكثر من مرة في المؤتمرات والاجتماعات، وأحياناً في ميادين العمل، مطالبين الحكومة بتسوية أوضاع العمال وتأمين جبهات عمل لهذه الشركات حتى تتخلص من البطالة المقنعة، وتؤدي للعمال حقوقهم.
إن النهوض بعملية التنمية الواسعة يتطلب وجود شركات إنشائية متطورة من حيث البنى والقوانين الناظمة لعملها، والأهم وجود اليد العاملة المدربة والخبيرة ذات الأجور المتناسبة مع غلاء الأسعار وطبيعة العمل القاسية لبعض المهن، والرقابة الشديدة على أداء مسؤوليها ومحاسبة المقصرين والفاسدين منهم.
إن النهوض بهذه الشركات يتطلب موقفاً نقابياً حازماً في الدفاع عنها وعن حقوق عمالها، وعدم الموافقة على تفريغها من اليد العاملة الخبيرة تحت حجة «عمالة فائضة».