درس طليعي لعمال بلجيكا
فارس محمود فارس محمود

درس طليعي لعمال بلجيكا

إنها لحقيقة لا يستطيع أيَّ إنسان منصف إنكارها، ألا وهي أن العامل يعنيّ الرفاه، المساواة، الحرية وعالم أفضل، يعنيّ الإنسانية والهوية الإنسانية المتطلعة للبشر. فيما تعني البرجوازية كل مصائب عالمنا المعاصر من جوع، فقر، ظلم واستغلال، حروب، تمييز وفرض الجهل والخرافة، الصراعات القومية والدينية والطائفية (صراعات تقاسم السلطة والثروة والنهب)، تعني الانحطاط الأخلاقي والاستهتار بكل القيم الإنسانية النبيلة والمتقدمة.

 يقدم عمال بلجيكا اليوم نموذجا ساطعاً آخر على هذه الحقيقة الناصعة؛ ففي خطوة طليعيّة غير مسبوقة، قام عمال بلجيكا بوقفة احتجاجيّة في العاصمة بروكسل للمطالبة برفع الحد الأدنى لأجور رفاقهم عمال النسيج في كمبوديا من 77 يورو إلى 137 يورو شهرياً. والأدهى من هذا أكدوا على وجوب أن تقر الشركات بدفع أجورٍ لائقة للعمال بغض النظر حتى عن قرارات الحكومة في كمبوديا، والحد الأدنى للأجور هناك (الذي هو أقل كثيراً هناك).
لا وطن للرأسمال
لقد بين العمال في بلجيكا عن موقف أممي متقدم يعكس بتجليّ الأشكال الهويّة الطبقيّة الأممية للعامل. لم يكذب ماركس حين قال «ليس للعمال وطن» ورفع راية «يا عمال العالم اتحدوا!» فوطن الرأسماليّ هو ثروته وأرباحه. ليس له وطن سوى هذا.
إنه مسعى في المسار الصحيح. أنه المسعى الذي على العمال في أوروبا وأمريكا وسائر البلدان المتقدمة أن يتخذوه تجاه رفاقهم في البلدان ذات العمالة الزهيدة الأجر. إنها خطوة طليعيّة مهمة إلى أبعد الحدود، إنها بادرة تدفع العمال الآخرين في العالم إلى الاقتداء بها والسير وفقها. لقد رد العمال بوعيهم الطبقيّ المتقدم على هذه الهوة التي تسعى الرأسمالية العالمية الاستفادة منها، هوة أوضاع العمال في البلدان المتقدمة ورفاقهم في بلدان مثل آسيا وأفريقيا. ففي الوقت الذي هبت الرأسمالية العالمية بالضغط على الطبقة العاملة في أوروبا وأمريكا عبر نقل رساميلها إلى بلدان مثل كمبوديا، بلدان ذات العمالة الرخيصة والمقموعة، كي يفرضوا التراجع على مكتسبات عمال البلدان المتقدمة التي حققوها بعد قرونٍ من النضالات الباسلة، من الثورات والانتفاضات، من الحركات الاحتجاجية والإضرابات، وأريقت من أجلها دماء أشرف الناس.
دماء العمال
إن حركة عمال بلجيكا في الوقت الذي تدفع إلى تحسين أوضاع العمال في كمبوديا، فإنها توجه ضربة إلى سياسات الطبقة البرجوازية وسلاح انتقال المصانع إلى البلدان ذات العمالة الزهيدة الأجر. إن الطبقة العاملة هي طبقة عالمية واحدة. بهذه الخطوة وقفت بوجه البرجوازية العالميّة وسعيها الحثيث من أجل خلق الفرقة ما بين العمال تحت ذرائع مختلفة (وهنا في حالتنا هي القطريّة والقوميّة والوطنيّة! وفي حالات أخرى ما بين العامل العامل والعاطل، ما بين الرجل والمرأة العاملة وغيرها). إن المعنى والماهية الأممية بالنسبة للطبقة العاملة هما معنى وماهية اجتماعية وحياتية وواقعية؛ وليست أيديولوجيّة أو عقائدية. ولهذا، حين يقول الاشتراكيون إن أي انتصار وتقدم يحققه عمال بلد ما، يعنيّ انتصاراً وتقدماً للطبقة العاملة العالميّة. لأن العمال، في المطاف الأخير، في مركب واحد، مركب عالم الرأسمال والمجتمع الرأسمالي بظلمه واضطهاده.
إن ثورة أكتوبر خير نموذج أمامنا. إذ كان انتصار العمال في الثورة وفرض حكومة العمال الاشتراكية بقيادة لينين والبلاشفة فوراً لقانون ثمانيّ ساعات عمل كسر فوراً مقاومة البرجوازية العالمية التي أراقت دماء العمال في أمريكا وغيرها من البلدان لرفعهم مطلب تقليص ساعات العمل. وبيَّنت للعالم أجمع أن ثمانيّ ساعات عمل هو مطلب واقعيّ وعمليّ وفي متناول اليد وأن ما يعترض تحقيقه في وقتها هو فقط الإرادة السياسيّة والطبقيّة للطبقة الحاكمة والمالكة، البرجوازية. وهكذا كان الحال مع حق النساء في التصويت.
هدر كرامة الإنسان
إن الطبقة العاملة لهيَّ فعلاً حاملة رسالة تحرر البشريّة جمعاء. وأن اقتدار هذه الطبقة وفرض إرادتها وإرساء بديلها هو وحده بإمكانه إرساء عالم آخر يستند إلى الحرية والمساواة وعالم خال من الاستغلال والظلم وهدر كرامة الإنسان. أن معضلة الطبقة العاملة تكمن في وعيها. إن وعت، بوسعها بسهولة أن تقلب الطاولة على الرأسمال والرأسماليين والوضعية الكارثيّة التي رموا المجتمعات بها. على سبيل المثال لا الحصر، المنطقة تغليّ بأوضاع الإرهاب والحرب، لو أن الطبقة العاملة تحلت بوعيها الطبقيّ، بوسع عمال ثلاث أو اربع شركات عملاقة أن يوقفوا عجلات الإنتاج في تركيا، وعندها سترى البشريّة كيف سيترنح اردوغان وألف اردوغان بداعشه وإخوان مسلميه، وكل الرجعية في المنطقة أمام الضربات القاصمة للطبقة العاملة في تركيا وفي العالم. عندها سيرى العالم أجمع كيف يتحول هذا «التنين» المستهتر بدماء الأبرياء في العراق وسورية إلى «جرذ» فار يرسف بالرعب!!.
ولهذا حين نقول إن بوسع الطبقة العاملة فقط أن تركع هؤلاء المجرمين الواحد تلو الآخر، فإن ذلك لا ينبع من تقديسنا غير المفهوم للعامل، ولا من «أجل عيون» العامل، بل لأننا ندرك أنها من بوسعها خنق الرأسمال والرأسماليين عبر خنقهم بأرباحهم، والرأسمال لن يبقى رأسمال دون الربح. إن عمال بلجيكا طرحوا أمام البشرية جمعاء سبيل إدراك نقطة اقتدارها، وسبيل تحررها، أيّ الاقتدار الطبقيّ والامميّ للعامل.

موقع العامل المعاصر