من الأرشيف العمالي: «فوق وتحت»

من الأرشيف العمالي: «فوق وتحت»

يثير موضوع الفساد الاهتمام بين أوساط واسعة ومن منطلقات مختلفة، وإذا كان هذا الفساد منتشراً بالطول والعرض كما يقول بعضهم، فيجب البحث عن أسبابه الأساسية من أجل استئصالها مما سيؤدي إلى تراجع الظاهرة ووضع حد لها.

هناك نوعان من الفساد: فساد أولئك الموجودين «فوق» وفساد أولئك الموجودين «تحت».

واضح أن سبب انتشار ظاهرة الفساد «تحت» هو انخفاض مستوى المعيشة، وعدم قدرة القسم الأعظم من الأجور على تلبية الحد الأدنى الضروري للمعيشة، مما يؤدي إلى دفع جزء من هؤلاء دفعاً للبحث عن مصادر إضافية على الدخل، ويصبح الدخل غير المشروع أحد هذه المصادر عند قسم من أصحاب الدخل المحدود، أي أن هذا النوع من الفساد له ضرر اجتماعي واسع وعميق أكثر بكثير من ضرره الاقتصادي المباشر.

وجواباً على سؤال: لماذا عدم قدرة الأجور على تلبية متطلبات المعيشة؟ نصل إلى بيت القصيد: إن السبب الجوهريّ يكمن في حجم الفساد «فوق» الذي يمارس نهباً جدياً للاقتصاد الوطنيّ ومنذ سنوات عديدة. ناهبيّ قوت الشعب عبر نهبهم للدولة ومواردها المختلفة يخلقون الأرضية الواسعة للفساد، فهم من جهة يحدون بنهبهم القوة الشرائية للأجور، ومن جهة أخرى يدفعون أوساطاً واسعاً للفساد «الصغير» ويغمضون العين عنه بهدف القبض على الأعناق كما عبر بحق أحد المفكرين. واللافت للنظر اليوم أن بعض الأوساط العالمية والمحلية التي خططت وشجعت على النهب سابقاً ترفع اليوم لواء «النضال» ضد الفساد، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، فهذا الصندوق آنذاك، في السبعينيات والثمانينيات، انتبه اليوم فجأة لضرورة «محاربة» الفساد.

كما أن أوساط البرجوازية الطفيلية المحلية التي استفادت من عملية النهب التي جرت ليس أقل من البرجوازية البيروقراطية، تنبري اليوم وبكل وقاحة «لمحاربة» الفساد الذي ساهمت بصنعه، فما السر؟!.

إن مفتاح فهم هذا اللغز يكمن في الأزمة الخانقة التي يعيشها الاقتصاد الرأسمالي العالمي اليوم، والتي تنبئ بهزات يمكن أن تصل إلى حد الزلزال. فالأرباح تنخفض والحالة تضيق، ولكي تحافظ الطغم العالمية والمحلية على مستوى أرباحها السابق لا حل أمامها إلا إخراج اللاعبين الصغار من الحلبة، وكذلك بعض اللاعبين الكبار، وكل هذا يتم تحت شعار محاربة الفساد الذي بطرحه يضيع الحابل بالنابل، وتضيق الحدود بين الناهب الكبير والناهب الصغير، ويتم وضع الأساس لقوننة النهب نفسه بشكل شرعي لاحقاً.

ومحاربة النهب لا يمكن أن تتم إلا بكسر الآليات التي سببته وبإغلاق المنافذ والمخارج التي يستخدمها، وهذا أمر ممكن.

قاسيون العدد 158 ايلول 2001