«كوهل فامب» لبريخت: هذا العالم وأصحابه المفترضون
كان برتولد بريخت رجل مسرح في المقام الأول. وهو بهذه الصفة أحدث كما نعرف خلال النصف الأول من القرن العشرين، تلك الثورة المسرحية الملحمية التي وضعته في مصاف شكسبير إذ شكل بأعماله نقطة انعطافية في تاريخ الكتابة والإخراج المسرحيين.
ومع هذا حين «حوكم» بريخت في هوليوود من جانب لجنة السيناتور ماكارثي المعروفة بمطاردة أصحاب الفكر التقدمي على اعتبارهم «معادين لأميركا»، «حوكم» بصفته كاتب سيناريو للسينما. وهو أمر لم يكن دقيقاً. إذ صحيح أن بريخت كان على مشاورات دائمة خلال إقامته الأميركية للعمل مع الاستديوات كاتبَ سيناريو، لكنه في الحقيقة لم يساهم إلا في فيلم واحد، هو «الجلادون يموتون أيضاً» حيث كتب النص الأصلي للعمل شراكة مع مخرجه فريتزلانغ. وكانت تلك المساهمة على أي حال، حتى وإن تمت في عام 1942 حين كانت الولايات المتحدة انخرطت تماماً في الحرب ضد النازية، تكفي لإدانة بريخت أمام لجنة مناهضة النشاطات المعادية لأميركا، طالما أن هذه اللجنة كانت أخذت على عاتقها اضطهاد كل التقدميين والأجانب، لا سيما الذين ناهضوا النازية ووقفوا إلى جانب الرئيس روزفلت في خوضه الحرب ضدها.
والحقيقة أننا ما أوردنا هنا هذه المقدمة إلا لنشير إلى ضآلة اهتمام بريخت بخوض الفن السينمائي في هوليوود على رغم المغريات. ومع هذا لن يفوتنا أبداً أن نذكر أن صاحب «أوبرا القروش الثلاثة»، كان اهتم بالسينما باكراً، أي منذ سنوات شبابه في برلين فكتب عنها، وحاول مراراً أن يكتب لها وساعد في اقتباس أعمال له سينمائياً، لكنه في معظم الحالات لم يوفّق، لا سيما حين حقق بابست، فيلماً انطلاقاً من مسرحيته «أوبرا القروش الثلاثة» (1931) فوصل الأمر إلى المحاكم. وفي ذلك العام نفسه، على أي حال، وربما على سبيل التعويض، ساهم بريخت مساهمة أكبر هي الوحيدة الحقيقية في تاريخه، وستكون الوحيدة التي لم يخفِ رضاه عنها في الفن السينمائي، وذلك من خلال كتابته والمشاركة في إخراج فيلم أعطي عنوان: «كوهل فامب من يملك العالم؟». وهذا الفيلم سيدخل تاريخ السينما، من ناحية بصفته «فيلم بريخت» الحقيقي الوحيد، ومن ناحية ثانية بصفته «الفيلم البروليتاري الوحيد الذي ينتمي إلى جمهورية فاليمار»، والذي أنجز وعرض قبل سنتين من وصول النازيين إلى الحكم نهائياً في ألمانيا، ذلك الحين. ولعل من الأمور اللافتة أن يكون هذا الفيلم قد عرض أولاً في موسكو (أواسط أيار - مايو - 1932) ثم بعدها بأسبوعين في برلين!
لقد كان من الواضح، بداية، أن بريخت حقق الفيلم، شراكة في الإخراج مع البلغاري الشاب في ذلك الحين سلطان دودوف - والذي سيحمل الفيلم اسمه وحده كمخرج، مع أن كل المعلومات والوثائق والشهادات أشارت إلى أن بريخت وضع همته كلها في الفيلم، إلى درجة أنه كان يتدخل في الأعمال التقنية من دون أن يكون ضليعاً فيها. مهما يكن من أمر، فلا بد من الإشارة هنا إلى أن العمل في «كوهل فامب» كان حقاً عملاً جماعياً. بل إن الشبان المتحلقين حول بريخت ودودوف كوّنوا شركة مساهمة - هي أشبه بتعاونية على النمط البولشفي - لإنتاج الفيلم، علماً أن الشركة أفلست خلال التصوير، ما زاد على الصعوبات صعوبات. ومع هذا أُنجز الفيلم ليصبح جزءاً من تاريخ السينما وجزءاً من تاريخ برتولد بريخت.
يتألف سيناريو الفيلم الذي كتبه بريخت شراكة مع دودوف ومع المساعد إرنست أوتفولد، من ثلاثة أقسام تحوي أحداثه كلها. وهو يدور على وقع أغنيات ثورية و «بروليتارية» لحنها هانس آيزلر وغنتها هيلينا فايغل (امرأة بريخت وشريكته لاحقاً) في «البرلينر إنسامبل»، وإرنست بوش. والحقيقة أن لكل قسم من أقسام الفيلم الثلاثة استقلاليته، مع أن التوليف نفسه والموسيقى توليا ربط الأقسام ببعضها بعضاً، ما أضفى على الفيلم في نهاية الأمر، ذلك الطابع الملحمي البريختي الحقيقي.
في القسم الأول من «كوهل فامب»، لدينا مجموعة من الشبان العاطلين من العمل، والذين وسط الأزمة الاقتصادية الخانقة في البلاد، يسعون عبثاً، في شكل جماعي وكل على طريقته، للعثور على عمل، ولكن من دون جدوى. ومن بين هؤلاء الشبان هناك بوينيكي الذي لا يتوقف أبواه عن لومه وعن تقريعه لأنه «صار في هذه السن، ولا يزال غير قادر على تقديم أي مساهمة في الموازنة العائلية الضئيلة». وتحت وقع هذا اللوم الدائم، وإذ يفشل بوينيكي في الحصول على أي عمل، تزداد أزمته إلى درجة أنه يقرر الانتحار برمي نفسه من النافذة. وهو إذ يقف على أهبة الاستعداد للقفز، يتنبه إلى ساعة يده فلا يكون منه إلا أن ينتزعها من معصمه، إنقاذاً لها من التحطيم الذي سيكون من نصيب جسده حين يقع من شاهق. وهذا القسم ينتهي هنا مع انتحار بوينيكي، في حكاية يبدو أن بريخت ورفاقه استقوها من حادث حقيقي تحدثت عنه الصحف في ذلك الحين.
في القسم الثاني من الفيلم لدينا أسرة بوينيكي نفسها. وهذه المرة نشهد إجراءات طرد الأسرة من الشقة التي تشغلها، لأن رب الأسرة بات عاجزاً عن دفع الإيجار. أما القاضي الذي يصدر الحكم، فإنه إذ يستخدم عبارة «الدين المتوجب سداده» يتفادى اجتهادات قانونية كان من شأن محامي جيد أن ينفذ من خلالها لإنقاذ الأسرة من التشرد. هكذا، تصبح أسرة بوينيكي من دون مأوى في المدينة، فلا يكون أمام العائلة إلا أن تلجأ إلى كوخ بائس يملكه صديق الابنة آنا الذي يرضى باستضافة الأسرة. لكن الذي يحدث بعد فترة قصيرة هناك، هو أن آنا تحمل ويكتشف الأهل حملها، ولا يكون ثمة مهرب من عقد الزواج بينها وبين الصديق، ولكن تبعاً لعلاقات طبقية واضحة، تتحدد بسرعة ومن دون غموض بأنها علاقات بين «البروليتاريا» و «البورجوازية الصغيرة»، بالتالي هي علاقات «سيطرة طبقية» واضحة. وهذا الوعي، هو الذي يدفع الفتاة آنا، على رغم ما تعانيه، إلى قطع العلاقة مع خطيبها وإلغاء الزواج... فهي لا ترضى بأن تخضع لأحد انطلاقاً من «قيم هيمنة طبقية لا تؤمن بها».
وإذ ينتهي القسم الثاني من الفيلم على تلك القطيعة، نجدنا في القسم الثالث أمام مناخ يختلف تماماً عن مناخ القسمين الأولين. إذ يُفتتح على ما يشبه عيداً رياضياً بروليتارياً. وها هي آنا، موجودة الآن وسط رفاقها الذين مكنوها من أن تجهض كدلالة ليس فقط على رفضها فكرة الزواج تحت شعار الهيمنة الطبقية، بل كذلك على رفضها حتى أن تنجب تحت ذلك الشعار. غير أن الذي كان قد حدث في تلك الأثناء هو أن خطيبها السابق، كان قد صار عاطلاً من العمل. وها هو الآن يعود إليها، وقد أضحى في وضعية بائسة تساوي بؤس وضعيتها، ما يجعلهما هذه المرة متكافئين. وهذا ما يقودنا ويقود ختام القسم الثالث والفيلم كله إلى سجال سياسي متشعب يدور في قطار الضواحي. واللافت أن هذا السجال يجد منطلقه من مقال في إحدى الصحف يتحدث عن إحراق كميات هائلة من نبات البن في البرازيل، كوسيلة من الشركات الرأسمالية لمنع أسعار البن من الهبوط في السوق العالمية. وهذا ما يقود الرياضيين الشبان إلى المناقشة في ما بينهم حول «أولئك الرأسماليين البورجوازيين» الذين «لا يتجاوز همهم اليومي رغبتهم في إدامة العلاقات الاجتماعية القائمة».
هذا الموضوع بتشعباته قد يثير الابتسام اليوم، إزاء تبسيطية رؤيته وأحكامه السياسية، لكنه، قبل ثلاثة أرباع القرن من الآن، كان يعتبر أمراً شديد الجدية والخطورة، ومتناسباً تماماً مع الفكر الذي كانت «البولشفية» تريد نشره في العالم. من هنا، لم يكن غريباً أن تسارع موسكو إلى عرض «كوهل فامب»، حتى قبل برلين، في الوقت الذي منعت بلدان غربية عدة عرضه. ويبدو أن ما استفز الرقابات لم يكن الفيلم نفسه بمقدار ما كان عنوانه الفرعي المتسائل: «من يملك العالم؟». مهما يكن، ومهما كان رأينا اليوم في هذا الفيلم الذي سنجده بلا شك «تبسيطياً» و «تعليمياً»، فإنه كان له تاريخه من ناحية، ومن ناحية ثانية أعطى برتولد بريخت في ذلك الوقت المبكر، مقداراً كبيراً من الرضى عن الذات وعوّض عليه ما كان قد أغاظه في تعامل بابست مع «أوبرا القروش الثلاثة».