الدراما والمثقف.. والحاجة إلى الإنصاف
قدمت الدراما السورية العديد من نماذج المثقفين في المجتمع السوري، وحاولت في عدة محطات رصد هذا المثقف وشخصيته ودوره في المجتمع، وغلب على هذه المحاولات التصوير الكاريكاتيري الساخر الذي ينتقد نموذج المثقف كثير الكلام قليل الفعل، أو المثقف السلبي المتخندق خلف شعاراته، البعيد عن إمكانية التغيير على أرض الواقع، فضلاً عن تجارب أظهرت شخصية المثقف المحاصر المضطهد من محيطه. وإذا كان السؤال حول مدى إنصاف هذا العمل أو ذاك للمثقف سؤالاً مشروعاً، فإن الإجابة عليه رهينة بفهمنا لواقع المثقفين في المجتمع من جهة، ولمفهوم الإنصاف الذي يفترض في الدراما أن تقدمه من جهة أخرى.
الحقيقة أن التصوير الذي قدمته أغلب الأعمال الدرامية للمثقف يتطابق بشكل كبير مع أوضاع المثقفين ونماذجهم في المجتمع السوري، فنموذج المثقف الذي يعيش عالة على الآخرين ولا يقوم بأي عمل إبداعي حقيقي، أو تقديم خطاب مغاير ومؤثر في المجتمع هو نموذج شائع فيما يعرف بالأوساط الثقافية السورية، وكذلك نموذج مثقف الشعارات الذي يكتفي بتكرارها صباح مساء دون الانتقال إلى حيز الفعل الاجتماعي، فهو أيضاً نموذج شائع في المجتمع السوري، ومن هذا الباب فإنه إذا كان المطلوب من الدراما تصوير الواقع وإعادة نقله للمشاهد بأدواتها الفنية، فإنه يمكن القول مجازاً إن العديد من الأعمال الدرامية السورية أنصفت المثقف.
ومن هنا نستطيع التأكيد على سبيل المثال إن صورة المثقف «سليم» في مسلسل «ضيعة ضايعة» قد جاءت تصويراً أميناً وصادقاً، ولو بصورة كاريكاتورية، لما يعيشه المثقفون في سورية، فضلاً عن تميز هذه الشخصية المصنوعة بحرفية عالية عمّن سواها في أعمال أخرى، لأن العمل لم يلق باللائمة على هذا «المثقف» وحده، وإنما قدم تحليلاً لحالة الضياع وانعدام الأفق التي يعيشها هذا المجتمع الذي لن يفرز في ظل أوضاعه الراهنة أكثر من هذا النموذج للمثقف، كما أنه لم يعمل على إهانة المثقفين وتجريحهم، وإنما حاول أن يقدم الجوانب الإيجابية في شخصية المثقف، وأن يظهر حقيقة أنه ضحية لكل ما يدور حوله من ضياع وتراجع اقتصادي واجتماعي وسياسي.
ومع ذلك فإن الدراما لا تزال فعلاً بعيدة عن إنصاف المثقفين، لأن تكرار تصوير واقعهم المتردي ليس إلا جلداً للذات من جهة، وتكريساًِ لهذا النموذج من المثقفين من جهة أخرى، ولهذا فإن الإنصاف يتطلب تقديم التحليل العميق والواعي لمجمل الظروف التي أوصلت المثقفين إلى ما هم عليه، فالمثقف الذي يفترض فيه التأثير الايجابي في المجتمع من جهة، هو ابن شرعي لهذا المجتمع ومؤسساته من جهة أخرى، هو ابن لإفراغ هذه المؤسسات من محتواها، وللخطاب الأحادي الذي يسيطر على الساحة الثقافية السورية، وفضلاً عن ذلك فإن أوضاعه المتردية هي نتيجة لانسداد الأفق وانهيار الحالة الثقافية في البلاد، هذا الانهيار الذي يلعب فيه المثقف بسلبيته دور الفاعل والمفعول به في الوقت نفسه.
وهكذا فإن إنصاف المثقف في الدراما يتطلب تقديم الصورة الحقيقية للمثقف السوري أولاً، والتحليل الصريح والعميق للظروف التي أوصلته إلى ما هو فيه ثانياً، ومن ثم تقديم رؤية صناع الدراما لشخصية المثقف القادر على مواجهة هذه الظروف والانتقال إلى الفعل الثقافي الحقيقي في المجتمع. وعلينا ألا ننسى هنا أن صناع الدراما ونقادها جزءٌ من شريحة المثقفين السوريين، ويقال فيهم ما يقال في بقية أبناء الشريحة نفسها، وبالتالي فإنه يفترض بهم أن يكونوا الأقدر على تحليل أسباب المشكلة إنصافاً للمثقفين السوريين، ولأنفسهم ودورهم أولاً.