الماركسية وتاريخ الفلسفة: نحو مهمة فلسفية معاصرة
هيلينا شيهان هيلينا شيهان

الماركسية وتاريخ الفلسفة: نحو مهمة فلسفية معاصرة

تطرح الفيلسوفة هيلينا شيهان، الأستاذة الفخرية في جامعة دبلن سيتي والمحاضرة الزائرة في جامعة بكين، سؤالاً جوهرياً: كيف نفهم العلاقة بين الماركسية وتاريخ الفلسفة؟ ولماذا أولى الماركسيون، رغم انشغالهم بالصراعات السياسية الملموسة، اهتماماً كبيراً بتاريخ الفلسفة؟ وفي ظل العودة الراهنة إلى هيغل، خصوصاً بين بعض الماركسيين المعاصرين، هل هذه العودة مفيدة حقاً لفهم الوضع التاريخي الراهن ومواجهته؟

ترجمة وتلخيص: قاسيون

تشير شيهان إلى أن الفلسفة اليوم تعاني من تهميشٍ متزايد؛ فالأقسام الأكاديمية تُغلق، والمكتبات تتخلّص من مجموعاتها

الفلسفية، والفلسفة نفسها تُدرَّس خارج سياقها التاريخي، كأنها سلسلة من الأفكار المعزولة عن الزمن والمكان، منفصلة عن التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية. في المقابل، كان المفكرون الماركسيون الكبار- من ماركس وإنجلز إلى لينين وبوكارين وغرامشي- يتعاملون مع تاريخ الفلسفة باعتباره عملية مترابطة وجذرية، جزءاً لا يتجزأ من تاريخ البشرية ككل، ومرآة لوعي العصور وصراعاتها الجوهرية.

لقد فهم هؤلاء أن الفلسفة ليست مجرد تأملات عابرة، بل هي تعبير عن الوعي التاريخي لعصرها، حتى لو بدا أحياناً غارقاً في التجريدات والتعقيدات. ولهذا رأوا أن مهمتهم لا تقتصر على تفسير الأفكار، بل على ربطها بحركة التاريخ المادي، واستخلاص أعلى أشكال الوعي الممكنة لعصرهم.

إن المنظور الماركسي للفلسفة يضعها في سياقها المادي والاجتماعي، فإنتاج المعرفة متجذر في إنتاج كل شيء في الحياة. ليست الأفكار نتاجاً مستقلاً، بل هي تتكثف من العمل الجماعي وقرون من التاريخ الاجتماعي. كلّ نمط إنتاج يولد أنماطاً فكرية مميزة. ففي صعود البرجوازية، على سبيل المثال، ولدت نضالاتها الفكرية لنيل الهيمنة نظريات المعرفة العقلانية والتجريبية، والمذاهب الليبرالية والفردية. لكن مع استقرار سيطرتها ومواجهتها ضغوطاً من اليسار، تراجعت نحو تيارات لا عقلانية ومعادية للمادية.

وقد دفع شيهان إلى هذا الفهم نهجان رئيسيان: تحولها إلى الماركسية، الذي جعلها ترى الأفكار كنتاج لعملية إنتاج المعيشة المادية، وتدريسها لمقرر تاريخ الأفكار لطلاب لن يدرسوا الفلسفة مرة أخرى، ما اضطرها إلى التركيز على الأسئلة الأساسية التي تشكل جوهر الفلسفة عبر العصور.

هل المعرفة ممكنة؟

من هذه الأسئلة: هل نُفسّر العالم الطبيعي بقوى داخله أم خارجه؟ هل المعرفة ممكنة، وما علاقتها بالواقع؟ هل الكون منظم أم فوضوي؟ وما علاقة الفرد بالمجتمع؟ هذه الأسئلة، التي تتجدد وتتعمق عبر التاريخ، تشكل الإطار الذي تتحرك فيه الفلسفة، وتُحدّد طريقة تفكيرنا في كل شيء، من الأخبار اليومية إلى القرارات السياسية.

اليوم، يسود المشهد الفكري مزيج من الوضعية الضيقة، وما بعد الحداثة المُلبِّكة. رغم تعارضهما الظاهري، فإنهما يتشاركان في رفض «السرديات الكبرى»، وتفكيك النظرة الشمولية، وإعاقة الفكر التوليفي الذي يجمع بين العمق التجريبي والتركيب النظري. كلاهما فلسفتان «تفكيكيتان» أنتجهما نظام اجتماعي متفكك يسعى إلى إخفاء طبيعته النظامية.

المشكلة في بعض أشكال الماركسية الهيغلية، أنها تميل كثيراً نحو التعقيد المثالي والمطلقات، مبتعدة عن الإنتاج المعرفي الخصب القائم على التفاعل مع علوم ووقائع عصرنا. بل إن بعضهم، مثل: ريتشارد سيمور، يعلن صراحة انتقاله من المادية إلى المثالية، زاعماً أن الوعي هو واقع أولي لا يمكن تفسيره مادياً.

السياق الاجتماعي والتاريخي

ترى شيهان أن الماركسية، على عكس الفلسفات الأخرى، لا تنفصل عن السياق الاجتماعي والتاريخي. فهي ترى في إنتاج المعرفة امتداداً لإنتاج الحياة ذاتها، وترفض الفصل بين العمل الذهني واليدوي، وبين العلوم الطبيعية والإنسانية. وقد نشأت الماركسية في بيئة فكرية هيمن عليها هيغل، لكنها لم تكتفِ باستيعابه، بل تجاوزته عبر ربط الديالكتيك بالمادة والتاريخ، محوّلة الفلسفة من تأملٍ مثالي إلى أداة للعمل والتحول.

غير أن شيهان تنتقد العودة المعاصرة إلى هيغل، خصوصاً التركيز المفرط على «علم المنطق»، الذي يُقدَّم أحياناً كمفتاحٍ سحري لحل معضلات العصر. وتتساءل: لماذا، في زمن الأزمات المتعددة- السياسية والبيئية والثقافية- يُصرّ بعض الماركسيين على الغوص في مفاهيم، مثل: «الكينونة المحضة» أو «الكم المحض»، وكأنها كيانات مستقلة؟ ولماذا يُستخدم هيغل كملاذ نخبوي بعيد عن الصراعات الواقعية؟

تؤكد، أن هيغل قدّم إسهامات مهمة- مثل فكرة الكلّية، والوعي التاريخي، والتطور الديالكتيكي- لكن الماركسية لم تأخذها كما هي، بل أعادت تأصيلها في إطار مادي وتاريخي. وتشير إلى أن كثيراً من هذه الأفكار لم تأتِ من هيغل وحده، بل من تراث فكري أوسع، بما في ذلك التجارب الدينية والعلمية والاجتماعية. وتستشهد بماركس نفسه، الذي قال: إنه «يغازل» هيغل، لكنها ترى أن هذا لا يعني أن علينا أن نفعل الشيء نفسه اليوم.

«مثالية بروليتارية»

الأدهى من ذلك، حسب رأيها، هو أن بعض الماركسيين المعاصرين ينزلقون إلى المثالية صراحة، بل ويبررون ذلك كـ «مثالية بروليتارية» أفضل لفهم الأزمات البيئية والوجودية. وترفض شيهان هذا المنحى جذرياً، مؤكدة أن المادية ليست عائقاً أمام الفهم، بل أساسه الوحيد القادر على ربط الفكر بالواقع، والنظرية بالممارسة.
وتذكّر بأن لينين، رغم عودته إلى هيغل في لحظة أزمة (اندلاع الحرب العالمية الأولى)، لم يتخلّ عن أسسه المادية، بل طوّرها ليشمل بعداً أكثر دينامية وتفاعلية مع الواقع.

في مواجهة هذا الاتجاه، تدعو شيهان الماركسيين إلى أن يقفوا في زمنهم، لا أن يعودوا إلى نصوص الماضي بحثاً عن حلول جاهزة. فالمهمة الحقيقية للفلسفة الماركسية اليوم ليست شرح هيغل أو ماركس، بل فهم الواقع المعقد: تتبع التحولات في الاقتصاد العالمي، وتحليل الأزمات البيئية، ونقد الثقافة الشعبية، وكشف الأيديولوجيات المدفونة في وسائل الإعلام والتعليم. إنها مهمة تتطلب وعياً شاملاً، لا تجريداً معزولاً.

علينا أن نُظهر كيف أن النظام الرأسمالي هو المسؤول عن ظلم العالم وتدميره البيئي، وعن الانحطاط الثقافي والاضطراب النفسي. نحن نقدم ليس فقط التحليل، بل الحل أيضاً: حركة لكشف هذا النظام، وبناء بديل اشتراكي. نحن نقدم المعنى والغاية.
وفي زمن يعاني فيه كثيرون من فراغ وجودي وانهيار في القيم، تقدم الماركسية رؤية متماسكة وشاملة، تربط المعنى بالعمل، والفهم بالتغيير. إنها ليست مجرد نظرية، بل مشروع حياة يمنح الغاية والاتجاه.

  • عن مجلة مونثلي ريفيو

معلومات إضافية

العدد رقم:
1248