عن ردّ الفعل في الموقف السياسي

عن ردّ الفعل في الموقف السياسي

كل موقف سياسي هو، في أحد معانيه، ردّ فعل. فالمواقف لا تنشأ في الفراغ، بل تأتي استجابةً لتطورات الواقع وتنازع المصالح. غير أن السؤال الأعمق الذي يفرض نفسه هنا هو: هل ينبغي أن يكون ردّ الفعل آلياً وميكانيكياً؟
فإذا اتخذ خصمك على سبيل المثال، موقفاً طائفياً، هل يكون الرد المنطقي طائفيةً مضادة؟ وإذا تبنّى خطاباً قومياً شوفينياً، هل يصبح الانعزال أو الانكفاء مبرراً؟
بهذا المعنى، لا تكمن المشكلة في وجود ردّ الفعل ذاته، بل في طبيعة هذا الرد: هل هو فعل سياسي واعٍ يستند إلى رؤية ومشروعٍ نقيض قولاً وفعلاً، أم مجرّد استجابة انفعالية لا تحل أيّ مشكلة، وتكرّس الانقسام وتعيد إنتاج الأزمة؟

الذرائعية

من يتتبع تطور الخطاب السياسي السوري خلال العقود الثلاثة الأخيرة، يلاحظ أن الذرائعية كانت إحدى سماته البارزة. فكل طرف وجد في مواقف خصومه مبرراً لتفسير سلوكه وتثبيت شرعيته.

فالسلطة، التي أحجمت عن أي إصلاح جذري، رغم أن الإصلاح كان قد بات ضرورة وطنية ملحّة، قدّمت بذلك الذريعة لبعض قوى المعارضة للارتماء في أحضان الخارج، والارتهان لمصالح دول إقليمية ودولية. وهنا وجدت السلطة فرصة لتسم كل دعوة إلى التغيير بأنها استجابة لأجندات خارجية.

من ردّ الفعل إلى العبث

ومع تفجر الأزمة عام 2011، وما رافقها من احتجاجات شعبية سلمية، لجأت السلطة إلى القمع والبطش بدل الإصلاح والانفتاح. في المقابل، وجدت فصائل معارضة في حمل السلاح ردّ فعلٍ مبررٍ على عُنف الدولة، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من الصراع المسلح الذي حوّل البلاد إلى ساحة صراع إقليمي ودولي مفتوح.

وهكذا أصبح الفعل ورد الفعل يغذيان بعضهما في حلقة مغلقة، تتضخم فيها الأخطاء، وتضيع معها البوصلة الوطنية.

إذا ما تابعنا سلسلة ردود الأفعال خلال السنوات اللاحقة، بما فيها المرحلة التي أعقبت انهيار السلطة السابقة، نجد أن المنطق ذاته استمر. فكل استفزاز أو حادثة كانت تولّد ردّ فعل مضاداً يزيد الانقسام.

فـ»استفزازات» بعض المجموعات المحسوبة على السلطة الجديدة في الساحل، على سبيل المثال، منحت ذريعة لردود أفعال من أُطلق عليهم اسم (الفلول) وجرائمهم، التي كانت ذريعة لجرائم الطرف الآخر، فيما أدّت جرائم السويداء إلى تصاعد نزعات انعزالية خطيرة، دفعت بعض أبناء المنطقة إلى خيارات جديدة محفوفة بالمخاطر.

بهذه الطريقة، تحوّل الفعل السياسي من مجال لصياغة البرامج والرؤى إلى ردود أفعال ارتجالية آنية، أشبه بتصعيد متبادل لا يفضي إلى حلول. ومع مرور الوقت، انحدر الخطاب العام إلى مستوى الانفعال والشخصنة، وأُفرغت السياسة من مضمونها كعلم له قوانينه ومقولاته وفرضياته، وفنّ لإدارة تناقضات الواقع الاجتماعي.

الشعبوية

حين تُختزل السياسة في ردود أفعال متبادلة، تتحوّل سريعاً إلى شعبوية. يصبح المعيار في الموقف السياسي هو المزايدة لا الفكرة، وحِدّة الخطاب لا عمق التحليل.

تُقدَّم الكراهية بوصفها شكلاً من الشجاعة، والتحريض الطائفي أو القومي باعتباره دليلاً على الأصالة والانتماء للجماعة. ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي تمنح كل فرد منبراً وجمهوراً، تتضخم هذه النزعة أكثر، فتُستبدل الحقيقة بالرأي، والوعي بالانفعال، والموقف المدروس بالرد السريع الارتجالي، ومع الدور المشبوه الذي يلعبه الذباب الإلكتروني في الدعاية والترويج والتسويق، يبدو المشهد وكأننا أمام ظاهرة طبيعية وقدر لا راد له.

هكذا تتأسس ثقافة التظلّم الدائم، حيث يرى كل طرف

نفسه ضحية، ويجد في خصمه سبباً دائماً لتبرير فشله أو تردّيه. وتصبح السياسة في هذه الحالة أقرب إلى حرب رمزية لا نهاية لها، تُخاض بالشعارات لا بالمشاريع، وبالمواقف اللحظية لا بالبرامج المستدامة.

الفعل لا ردّ الفعل

إن أخطر ما في منطق ردّ الفعل أنه يُفقد السياسة معناها الحقيقي، ويحوّلها إلى مرآة مشوهة للآخرين. فالموقف السياسي، حين يكون تابعاً لما يقوله أو يفعله الخصم، يفقد استقلاله ويغدو جزءاً من اللعبة التي يدّعي معارضتها.

السياسة الحقيقية ليست انفعالاً تجاه ما يفعله الآخر، بل قدرة على إنتاج موقف مستقل يعبر عن المصالح الاجتماعية ومن رؤية متماسكة للمستقبل.

إن تجاوز حالة الاستعصاء التي تعيشها سورية اليوم لا يمكن أن يتمّ بمنطق ردّ الفعل، بل عبر إرادة سياسية متجددة، تنطلق من الفعل الواعي، القادر على كسر حلقة الاتهامات المتبادلة، والانقسامات المشوهة وبناء مشروع وطني جامع لا يقوم على نفي الآخر، بل على استيعابه في إطار مشترك.

فالمشكلات لا تحل حلاً حقيقياً بناءً على ردود الأفعال، بل على أفعالٍ مدروسةٍ مسؤولة، تضع المصلحة العامة فوق الاصطفافات، وتجعل من السياسة فعلاً إيجابياً يُعيد للناس ثقتهم بأن التغيير ممكن، دون الوقوع مجدداً في فخاخ الماضي.

هوامش

منطق رد الفعل بهذه الصيغة البدائية يمنع فرز القوى على أساس مصالحها الحقيقية، ويعرقل تبلور تلك الكتلة الاجتماعية القادرة على حسم الصراع، وبالتالي، يُعيق عملية التراكم، وفرز تيارات وقوى سياسية وشخصيات تستطيع أن تكون مركز استقطاب، وتتحول إلى رموزٍ وقوة مثل، ونموذج يعتمد عليه في حل وتفكيك المشكلات الواقعية التي تفرض نفسها على عموم السوريين، سواء كانت قضايا وطنية عامة، أو مسألة توزيع الثروة، أو حريات الناس وحقهم في تقرير مصيرهم.

مواقف رد الفعل تؤدي بالضرورة إلى التخادم بين الخصوم المفترضين، وتحوّل عامة الناس إلى وقود في معركة عبثية لا نهاية لها، وشل فعالية المجتمع، وحالة فراغ يمكن أن يتم ملؤها بأي موقف.

سياسة رد الفعل في جانب ما هي إلا إحدى تجليات العقم المعرفي لقوى الفضاء السياسي التقليدي، العاجز عن إدراك حقائق العالم المعاصر، والتحولات العميقة التي تفرض نفسها على الجميع، والتسارع الذي يترك خلفه كل أولئك الذين يحاولون الإجابة عن أسئلة الحاضر بأدوات الماضي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1248