الـ«بيلدونغ» الألماني جدلية النصر والهزيمة، وكسر الاغتراب
إنّ مضمون القول العام حول غنى المرحلة وتعقيدها وتشابك مستوياتها وتناقضاتها وموقعها الخاص في التاريخ لا يزال يتكشَّف شيئاً فشيئاً في العمليات التاريخية والصراع السياسي اليومي. إحدى الظواهر الكاشفة هي النقاش الحاصل حول قضايا الهزيمة والنصر. ليس السؤال بسيطاً أو سياسياً بالمعنى المباشر حول معركة أو جبهة أو حرب، بل هو في صلب الانتقال التاريخي للمجتمع، وتحديداً جدلية الفعالية-الاغتراب للغالبية الاجتماعية، أيْ تحوّل التنظيم الاجتماعي ككل.
في نقاش النصر والهزيمة
في مختلف الجبهات السياسية والعسكرية التي تشكّلت خلال السنوات الماضية، من موجة إسقاط الأنظمة والانتفاضات في كل دولة، إلى الحرب التي انفتحت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، في كل تلك الجبهات هناك نقاش حاكم حول النصر والهزيمة، والذي يحمل الكثير من التوتر حول معنى ونتيجة تلك الجبهات. وهذا التوتر يظهر لدى الغالبية ضمن الموقف الواحد الذي ينتقل بين موقع النصر وموقع الهزيمة دون تحديد السياق العام والمعنى التاريخي لهذه الجبهات وارتباطها بالأزمة العامة للبنية الرأسمالية كحالة حضارية من جهة، ومن جهة أخرى ببرامج وأدوات الصراع وترابطها على المستوى العالمي. ومن الضروري الاستمرار في استكشاف هذا المعنى وهذا الترابط لأهميته في صياغة الخطاب السياسي والسردية اليومية التي تتصدى لهذا التوتر الذي ينحو غالباً باتجاه الهزيمة، ويُفقِد الحركةَ المعنى الثوري لهذا التوتر ويمنع من توليف جوانب النقد التي في أغلبها محقَّة بغض النظر عن الخلاصات العدميّة التي تبنى عليه.
في موت الفضاء السياسي القديم
مجدداً، إنَّ مقولة موت الفضاء السياسي القديم لا تعني فقط أزمة التنظيمات السياسية أو البنى السياسية المؤسسية على المستوى الإقليمي والدولي غير القادرة على التأقلم مع التحولات العميقة التي تحمل طابع الانتقال من حالة حضارية تعفنت إلى حالة حضارية جديدة، بل تعني أيضاً أنَّ علاقة قوة العمل-رأس المال، ولا سيّما طورها الخاصّ الذي تشكَّلَ فيما بعد الحرب العالمية الثانية، هي في حالة موت مع كل ما يُبنى عليها من تنظيم شكل الدولة وشكل المجتمع المدني ككل، ومجمل التقسيمات السياسية التي ظهرت نتيجة تلك العلاقة والتوازن بين قوة العمل-رأس المال، والتي تتمظهر بشكل رئيسي في النماذج الاقتصادية-السياسية، إنْ لجهة دول الرفاه التي جرى ويجري التراجع عنها منذ سنوات، أو الدولة القومية المأزومة ليس في منطقتنا فقط بل في كل العالَم من أمريكا اللاتينية إلى أفريقيا إلى آسيا، أو الدول التي ورثت التجارب الاشتراكية، أو لجهة العلاقات الدولية. وفي جوهر كل ذلك: شكل إشراك الجماهير في إدارة المجتمع، شكل النظام السياسي-الاجتماعي، ونمط الحياة ككل. إنه، وبكلمة، انتقال التناقض بين الإنسان-المجتمع إلى مستوى جديد بعد استنفاد الصلاحيته التاريخية للأشكال التي ظهرت إلى الحياة بعد الحرب العالمية الثانية. إننا ما زلنا في سياق تجاوز اغتراب الإنسان.
التكشّف التدريجي لحدود الفضاء السياسي القديم
إنَّ موت الفضاء السياسي القديم، ونتيجة كونه على هذا المستوى من التعقيد والعمق، لا يحصل دفعةً واحدة، بل تظهر حدود الفضاء القديم مع تطور الصراع السياسي وانفجار التناقضات. وهذا التكشف يحصل تحت تأثير معادلة «مِن الأكثر تعفناً نحو الأقل تعفناً»، مضافاً إليها حساسية ووزن موقعها في الصراع السياسي العالمي وكمية وحجم التناقضات داخلها؛ التي تتركز بشكل عام حول الانقسام الأساسي (الإنسان-المجتمع)، ومعه مجمل منظومة القمع والتقديمات الاقتصادية وهامش الممارسة السياسية، إلخ. فإذا كانت، مثلاً، ما اصطلح على تسميتها بالدول القومية هي الأكثر تعفُّناً، والتي بينها نفسها فروقات في هذا التعفن، فإنها هي التي دخلت في الموت التاريخي قبل غيرها من دول الرفاه التي بدأنا نتلمَّس دخولها في طور أزمة تاريخية حسب فروقات التعفُّن بين دول الرفاه كذلك (اليونان قبل غيرها مثلاً، وفرنسا قبل دول الشمال الأوروبي مثلاً، ولاحقاً أمريكا). وهذا التلاحق ليس ميكانيكياً بل هو متداخل، ولكن هنا نشير إلى الطابع العام. هذا التدرج في التعفُّن والموت يمكن تلمُّسه أيضاً على مستوى الأحزاب.
المعنى الثوري لتوتر (نصر-هزيمة)
الكلمات المجردة سهلة على عكس الواقع المباشر الذي تعكسه تلك الكلمات، فانفجار التناقض كمفهوم ينعكس واقعياً: دماءً ودماراً ومعاناةً وتشرُّداً وتهجيراً وجوعاً وخوفاً وصدمات. ولكن كلّما تصاعد الألم والمعاناة، كلّما تصاعد وزن ضرورة «العقل البارد» التي لطالما تردَّدت في الأدبيات السياسية، ولكنها تكتسي أهمية تاريخية أكبر اليوم، كما كلّ المقولات الفلسفية الكلاسيكية من الاغتراب إلى الحرية إلى ثنائية الإنسان-المجتمع، في واقع تاريخي راحل في الفلسفة حيث يلتقي المنطق مع الحقيقة التاريخية كتحقق تاريخي لتوصيف إنجلس الذي أشار إلى أن المنطق هو التعميم والتجريد الأقصى للعمليات التاريخية. وإنّ ممارسةَ وتحمُّلَ العقل البارد بحدّ ذاته فيها معاناة من طابع آخر، نابعة من تحطيم العقل الفردي الرغبويّ، المشتبك بفعالية تقدمية لا انفعالية في الصراع.
ومن موقع العقل البارد، فإن الجوهر الثوري، أو بالأحرى أحد عناصره الرئيسية، لتوتر (نصر-هزيمة) هو استكمال انكشاف حدود الفضاء السياسي القديم الذي يفرض نفسه على القوى الاجتماعية. وهذا الانكشاف يخلق بدوره القاعدة المادية الموضوعية لإطلاق طاقات اجتماعية جديدة، وذلك لتعويض الفعالية التاريخية للقوى والبنى والعمليات التي تخرج من مسرح التاريخ، أو التي تدخل في حالة تحويل وتطوير ذاتي لنفسها (إنْ نجحت) بسببٍ من وصول ممارستها المعرفية والعملية السابقة إلى حدودها التاريخية، نتيجة انغلاقها على إحداثيات الفضاء السياسي القديم. بهذا المعنى يمكن فهم جدلية النصر والهزيمة في سياق تاريخي أوسع وأعمق، فمن يُهزَم هو فضاء سياسي قديم، وضمن تلك الهزيمة يمكن تلمُّس معالم «النصر». وبهذا، لا يمكن فهم النصر والهزيمة ميكانيكياً بأنهما موزَّعان على مواقع متقابلة بالمعنى الميكانيكي، وإنْ كان ذلك هو المظهر الخارجي للمتناقضات بين قوى العمل-رأس المال على المستوى العالمي.
إطلاق الطاقة الاجتماعية-السياسية يمكن تلمّسه في ارتفاع حالة المبادرة التي وإنْ كان لا يجري التعبير عنها دائماً (إلى حد الآن) ضمن أطر منظّمة. هذه المبادرة المتصاعدة والفاعلية يجري تعلّمها من قبل القوى الاجتماعية، وذلك في تقييم تلك الممارسات وتلك البنى التي تنتمي للفضاء القديم وحدوده. ليس المكان هنا لتعداد أشكال تلك المبادرات، ولكنها مختلفة على المستوى الفردي والأهلي والسياسي الإقليمي والدولي. أليس أسطولُ كسر الحصار عن غزة أحد تلك الأشكال؟ أليس ارتفاع مستوى اشتراك الناس بالنقاش والنقد والتفكير بمعزل عن قاعدة هذا النقاش والتفكير هو شكلٌ من المبادرة والفعالية؟
انقسام إنسان-مجتمع الاغتراب: أمثلة أخرى
عودة إلى جوهر الانقسام في المجتمع الطبقي، هناك نقاش حاصل على مستوى الأكاديميا، كما أشرنا في مواد سابقة، حول التحول التاريخي والمسؤولية المواطنية والفعالية في عصر الأزمات. هنا نشير إلى موضوع ضمن الأكاديميا (في الغرب) مرتبط بنقاش هذا الانقسام، هو أزمة السياسات التعليمية عالمياً، ومنها مثلاً «مجتمع المعرفة» و«مجتمع التكنولوجيا»، المحمول ضمن بنى أممية وإقليمية كمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (أونيسكو) والاتحاد الأوروبي وغيرها من المبادرات التي يجري نقدها في كونها نيوليبرالية ومصلحيّة لا تخرج عن توازن القوى القائم، وتناقضها مع تراث مدرسة الـ«بيلدونغ» (Bildung) التي تشير إلى التحصيل الذاتي الثقافي والمعرفي وتطور التربية لدى الأفراد، ومقولاتها في الفلسفة الألمانية الكلاسيكية كهيغل وماركس وشيلر وغوته وغيرهم، والتي تتمحور حول قضايا الفعالية الفردية والتعلم والنمو كعملية تحويل «جمالي» للواقع (الجمال حسب هؤلاء الفلاسفة هو قانون وجود النوع الإنساني)، وتشكيل المعنى والمسؤولية الفردية تجاه الواقع من خلال الانتماء إلى عملياته التاريخية وتجاوز الاغتراب. هذا المثال، وإن كان لا يزال ضمن حدودٍ محافِظةٍ محدودة ضمن «التربية والعلم والثقافة»، يُظهِر مدى تدفُّق الجوهر الثوري لموت الفضاء السياسي القديم والانتصار لصالح تجاوز الانقسام في المجتمع الطبقي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1248