أيُّ شرقٍ أوسطَ جديد؟

أيُّ شرقٍ أوسطَ جديد؟

من الواضح أن الشرق الأوسط، بصيغته التي عرفناها منذ الحرب العالمية الثانية، قد وصل إلى نهايته. المنطقة اليوم تمرّ بمخاضٍ عسير لولادة شرقٍ أوسط جديد، والصراع لا يدور حول بقاء القديم أو زواله، بل حول شكل المولود القادم، أيّ شرقٍ سنحصل عليه؟ هل سيكون شرقاً حرّاً يليق بشعوبه، أم نسخة مشوّهة من الماضي بثياب جديدة؟

شرط البداية

وإذا كنا نريد شرقاً أوسط جديداً حقاً، فإن أحد أهم معاييره ينبغي أن تكون القطيعة مع القديم- السابق؛ وخصوصاً دور الشرائح الاجتماعية ومصالحها، والسياسات وطبيعة العلاقات الإقليمية والدولية التي كرّست التبعية، والنموذج الثقافي المهيمن.

من دون هذه القطيعة، لن يكون هناك جديد يُذكر، بل تدويرٌ للمأساة نفسها بأدوات مختلفة.

ثلاثية الخراب... مشكلات النموذج

لم تكن مشكلات دول الشرق الأوسط طائفية أو دينية فحسب كما يحلو للخطاب المتلبرل أن يصوّرها، بل كانت نتاج أزماتٍ اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة، يمكن تلخيصها في ثلاثيةٍ مدمّرة:

  1. النموذج الاقتصادي، وما أنتجه من اتساع الفجوة الطبقية بين أقلية مترفة وسوادٍ أعظم يزداد فقراً وتهميشاً وحرماناً يتحول إلى احتقانات متراكمة.
  2. المسألة الديمقراطية، أنظمة تحكم بالقمع والخوف وتُكمم الأفواه باسم الأمن والاستقرار.
  3. المسألة الوطنية، سيادة منتهَكة وكيانات هشّة تعيش تحت تهديدٍ دائم.

لقد احتكرت شرائح الكومبرادور – أي الطبقات الوسيطة بين السوق المحلية والمركز الرأسمالي العالمي – السلطة والثروة، وربطت مصائر الدول بعلاقات تبعية مع رأس المال المالي والبنوك والقروض الأجنبية وشروطهما. ونتيجةً لذلك، أُفقِر المجتمع، وفسدت مؤسسات الدولة، وانتهى دورها الاجتماعي، مما تطلب قوانين استثنائية، أحكاماً عرفية وقانون طوارئ وأجهزة أمنية متغوّلة تمنع أي رفض وتمرد اجتماعي وتحرس عملية النهب.

هكذا تكرّس التحالف بين الكومبرادور المحلي والمركز الدولي الناهب، فباتت السيادة مجرد شعار، سواء في بعدها الجغرافي أو النقدي أو حتى الرقمي.

ومن دون تفكيك هذه المنظومة الثلاثية (النهب – القمع – انتهاك السيادة)، يصبح الحديث عن شرقٍ أوسط جديد مجرّد خداعٍ لفظي أو تجميلٍ للقديم بأدواتٍ حديثة.

جرح قديم متجدّد

لا يمكن الحديث عن شرقٍ أوسطٍ جديد دون حلٍّ عادلٍ وديمقراطيٍ لمسألة التعدّد القومي والديني والثقافي، وهي إحدى سمات المنطقة الأساسية.

لكن هذا الحل لا يمكن أن يتحقق إلا ضمن مراجعة جذرية لنموذج الدولة الوطنية ومنظومة تبعيتها الداخلية والخارجية.

فالسلطات الكومبرادورية التي أنكرت قضايا مثل القضية الكردية، هي ذاتها التي قادت بلدانها – كسوريا والعراق – إلى حالة اللا دولة. أما «المركز الناهب»، فكان يستخدم هذه القضايا كورقة ضغطٍ لإدارة الأزمات لا لحلّها.

الدور الأمريكي في اتفاقية الجزائر عام 1975، ثم في اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني ووصمه بالإرهاب، مثالٌ واضح على تكامل دور السلطات الكومبرادورية والمراكز الدولية في أزمات المنطقة.

إن القضية الكردية، مثل غيرها من قضايا الشعوب في المنطقة، ليست مشكلة قومية فحسب، بل هي أيضاً انعكاسٌ لتشوّهات نموذج الدولة التابعة التي فشلت في إنجاز مهامها التاريخية. من هنا، يصبح أي حديثٍ عن الحلول الجزئية ليس بالضرورة أن يكون حلاً، بل مجرّد إعادة إنتاجٍ للمشكلة بأشكالٍ أخرى.

موت القديم وولادة الجديد

ما نشهده اليوم من فوضى وصراعاتٍ متداخلة هو وجهٌ آخر لمرحلةٍ انتقالية بين موت النظام القديم وولادة نظامٍ جديد.

لكنّ الجديد الحقيقي لا يمكن أن يولد إلا من استقلالٍ اقتصاديٍ وسياسيٍ وثقافيٍ فعلي.

شرقٌ أوسط جديد تتقاسم ثرواته نخب الكانتونات الطائفية والمراكز الدولية ليس إلا نسخة معدّلة من القديم.

شرق أوسط يفرض ترامب على سلطاته إتاوات، ويوزع عليها الأدوار ويعربد فيه نتنياهو هو استمرارٌ للقديم بوجهٍ أكثر فجاجة.

أما شرقٌ قائم على التناحر القومي والطائفي وإقصاء أي من مكوّناته الثقافية، يدفع فقراؤه ثمن صراع عبثي، فهو تكرارٌ مأساويٌّ للتاريخ حتى وإن تبدّل المهيمن والمهيمن عليه.

العراق... التجربة الأولى

كان العراق المختبر الأول لمشروع الشرق الأوسط الجديد حسب الوصفة الأمريكية.

ومنذ الاحتلال الأمريكي عام 2003، لم يكن العراق حرّاً في التصرف بعائداته النفطية؛ فكلّها تمر عبر البنوك الأمريكية، ولا تستطيع الحكومة التصرف بسنتٍ واحد دون موافقة واشنطن.

في عراق «الديمقراطية وحقوق الإنسان» لم تُحل أي مشكلةٍ حقيقية منذ 2003، حتى القضية الكردية التي بدت الأكثر استفادة، عانت من انتكاساتٍ كبرى، حروب داخلية، تمدد داعش إلى مشارف أربيل عام 2014، خسارة المناطق المتنازع عليها بعد الاستفتاء، ثم رفض مجلس الأمن الدولي بالإجماع لنتائجه.

لقد كانت «بروفة الشرق الأوسط الجديد» أكثر فوضوية مما توقّع مهندسوها.

شرق الشعوب شرق النخب

الشرق الجديد المنشود ليس شرق الحكّام والنهّابين، بل شرق الشعوب ومصالحها الواحدة ومصيرها المشترك.

فلم يسجّل التاريخ أن جماعة قومية أو دينية استقرّ وضعها بمعزل عن غيرها.

لكنّ انهيار القديم لا يعني تلقائياً ولادة الجديد؛ فقد يكون بداية انحدارٍ جديد إذا لم تتكوّن حوامل سياسية واجتماعية قادرة على بناء البديل، وتكون عنواناً ومركز استقطاب للملايين التي تبحث عن جديد حقيقي.

حتى القوى الدولية التي من المفروض أن تتقاطع مصالحها مع الجديد الحقيقي لم تقدّم نموذجاً جاذباً بعد، فالتخبّط الروسي في سورية – بين الحرب على الإرهاب - ومناطق خفض التصعيد - والقرار 2254 – لم يؤدِّ إلا إلى تشويش المشهد وزيادة الشكوك حول مصداقية الدور الروسي.

باختصار

الشرق الأوسط يقف على أعتاب مرحلةٍ تاريخية حاسمة.

القديم يتهاوى، والجديد لم يولد بعد.

لكن ما سيُولد في النهاية يتوقف على من يمتلك زمام المبادرة، هل هي الشعوب وقواها الحيّة الساعية إلى الحرية والعدالة والديمقراطية والسيادة الحقيقية؟

أم السلطات ونخب التبعية والمراكز الناهبة التي تملك المال والسلاح؟

الجواب سيحدّد إن كان القادم شرقاً أوسط جديداً بالفعل... أم قديماً بثوبٍ جديد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1247