ليس مجازاً... المعنى الفعلي للإجرام!

ليس مجازاً... المعنى الفعلي للإجرام!

يتعامل البعض مع أساليب وسلوكيات الإجرام والوحشية كالقتل والتدمير والتجويع...إلخ، التي تُمارس ضد غزة وأهلها وناسها على أنها نتائج وآثار جانبية للحرب القائمة ضدها، ولكنها ليست كذلك. 

لم يرم جيش الاحتلال «الإسرائيلي» قنبلة نووية على غزة على غرار ما فعل الأمريكي في الحرب العالمية الثانية، عندما أذهل العالم حينها بحجم الوحشية التي يمكن أن يرتكبها النظام الإمبريالي العالمي في سبيل بقائه واستمرار سياساته المعادية لكل مفاهيم الحياة ومظاهرها المختلفة. واليوم تقوم «إسرائيل» بهذا الدور بالنيابة، كرأس حربة لرأس المال المالي الإجرامي، والتي يعتقد كثيرون أن صفة الإجرام المرافقة هنا لها معنى المجاز، ولكنها تحولت على يد آلة القتل الصهيونية إلى واقع فعلي، فما تقوم به إسرائيل اليوم وتجاوزه لكل ما يمكن أن يصدقه ويتخيله عقل إنسان، حقق نتائج تشبه نتائج إسقاط القنبلة النووية، وهذا أيضاً ليس بمعنى المجاز بل بالمعنى الفعلي للكلمة، والحقائق الآتية تثبت ذلك.

أرقام وحقائق

إضافة إلى ما تقدمه التقارير من أرقام حول إزهاق أرواح أكثر من 60 ألف فلسطيني، وما يزيد على 160 ألف جريح، في ظل حصار خانق ومجاعة متعمدة منذ أكتوبر2023، لا يستهدف جيش الاحتلال الجسد الفلسطيني وحده فقط، بل كل ما حوله: الأرض، والهواء، والبحر. فالإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي ليست مجرد حملة قتل مباشر وسريع، بل حرباً شاملةً تطال كل ما يشكّل معالم حياة، ضمن استراتيجية تقوم على التدمير الشامل لمقومات الحياة، إذ تبنّى الاحتلال سلوكاً ممنهجاً ومتعمداً تجاوز القصف والتجويع إلى تفكيك البيئة الحية لقطاع غزة، واستهداف البنية الزراعية والاقتصادية التي تُشكّل عماد العيش اليومي للفلسطينيين. وحوّل الأرض التي تحتضنهم وتطعمهم وتؤويهم إلى مكان للموت المؤجّل. وأصبح تدمير الأرض وتجفيف مصادر الغذاء جزءاً لا يتجزأ من حملة تسعى إلى استئصال شروط البقاء وقطع سُبل الحياة عن شعب محاصر.

فالتقارير الدولية تحذر من دمار بيئي غير مسبوق قد تنعكس آثاره على صحة السكان لأجيال طويلة. حيث دمرت إسرائيل وما زالت عن عمد وبشكل ممنهج، البنية البيئية والاقتصادية في غزة. فالهواء مشبَع برذاذ القصف والغازات السامة، المياه إما مالحة أو ملوثة بمياه الصرف، والتربة غارقة في المتفجرات والمواد السامة التي تتسرّب إلى باطن الأرض والبحر معاً. ومع انهيار أنظمة الصرف الصحي والنظافة، تنتشر الأوبئة، ويُحاصَر الفلسطينيون بمزيج قاتل من أحدث وأقوى الصواريخ والأسلحة الفتاكة، بجانب السموم والأمراض والحرمان. ويبدو أنه حتى لو توقفت الحرب، فإن الموت لن يتوقف. فإعادة الحياة إلى غزة ستغدو معركة وجود، لا مجرد مهمة إعمار.

موازنة للتقديرات بين عامين

تغطي جبال من الركام كل زاوية في قطاع غزة، نتيجة تدمير آلاف المباني وتحويل المدينة إلى فضاء خانق من الخرسانة والغبار. ففي تقييم سابق في حزيران 2024، قدّرت الأمم المتحدة أن حجم الأنقاض المتراكمة في القطاع بلغ نحو 39 مليون طن – أي ما يعادل أكثر من 107 كغم من الحطام لكل متر مربع واحد من مساحة غزة، وبعد مرور عام على هذا التقييم، واستمرار الإبادة، وتضاعف الكارثة أصبح من العسير اليوم قياس حجم الدمار الحقيقي بسبب الحصار الشامل وغياب أية آليات مستقلة للرصد أو الوصول إلى البيانات ضمن مشهد خانق، لا يقتل الاحتلال فيه الناس بالقصف وفرض التجويع فحسب، بل يمرّر القتل عبر الهواء الذي يتنفسه الناجون. إذ ينتشر في سماء غزة غبار كثيف سام ناتج عن سحق المباني، محمّل بجسيمات خرسانية، ومعادن ثقيلة، ومادة الأسبستوس السامة المتبقية من الأبنية القديمة وقد أدى استنشاق هذا الغبار على مدار أشهر إلى مشكلات تنفسيّة حادة. وبحسب تحليل أجرته وكالة بلومبيرغ لصور أقمار صناعية عالية الدقة التُقطت في حزيران 2025، فإن أكثر من 1 كيلومتر مربع من أراضي القطاع بات مغطىً بمكبّات نفايات جديدة، 60% منها تقع على مقربة مباشرة من خيام المدنيين، و15% قرب منشآت المياه والصرف الصحي. ونظراً لمحدودية التغطية الفضائية، يُرجّح أن تكون هذه التقديرات أقل من الواقع.

متلازمة غيلان باريه

لا تتوقف أسباب الموت في غزة على القصف الإسرائيلي الوحشي المتواصل، يفاقم انتشار الأمراض المعدية من وطأة القتل، وخاصةً بعد ما رصده الأطباء خلال الأسابيع الأخيرة من تفشٍّ مقلقٍ لمرضٍ عصبيٍّ نادرٍ يُعرف «بمتلازمة غيلان باريه» ينتشر بين الأطفال ويهدد حياتهم. وتتفاوت حالات الأطفال المصابين بين من ظهرت عليهم أعراض أولية مثل ضعف في الأطراف وصعوبة في المشي، وبين من تدهورت حالتهم بسرعة حتى احتاجوا إلى أجهزة تنفسٍ صناعيٍّ داخل وحدات العناية المركزة حسب ما نقلته وكالات الأنباء.

كما أعلنت وزارة الصحة بغزة، الثلاثاء 5 آب، تسجيل 95 إصابة بالمتلازمة، محذرةً من انتشارها السريع بفعل سوء التغذية وتلوث المياه الناجمين عن الحصار. يأتي ذلك بينما يشهد قطاع غزة انتشار عدد من الأمراض المعدية والأوبئة التي تتفاقم وتيرتها يوماً بعد يوم، خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف وتردي الأوضاع البيئية والصحية وتكدس النازحين في ظل القصف المتواصل.

وتناقلت وكالات الأنباء عن أطباء فلسطينيين أن متلازمة غيلان باريه بدأت تنتشر بشكلٍ غير مسبوق في غزة. حيث أكد أحد الأطباء في تصريح له: «قبل الحرب كنا نسجل حالة أو حالتين سنوياً»، مشيراً إلى أن الأعداد ارتفعت مؤخراً، وجميع الحالات المسجلة لأطفال تجاوزت أعمارهم 15 عاماً. تتزامن هذه الحالات مع التجويع الممنهج وسوء التغذية بين الأطفال، ما يضعف مناعتهم ويزيد احتمالات الإصابة بأمراضٍ نادرةٍ، وبحسب برنامج الأغذية العالمي، يعاني نحو 100 ألف طفلٍ وسيدةٍ من سوء التغذية الحاد، فيما يعيش ربع المواطنين في القطاع ظروفاً «أشبه بالمجاعة». ومن أبرز الأمراض المعدية المنتشرة في غزة، حسب تصريحات الأطباء التهاب السحايا، القمل، الجرب، الجدري المائي، التهاب الكبد الوبائي (أ)، الكوليرا، أمراض الإسهال المُعدية، شلل الأطفال، الالتهابات الصدرية المعدية.

تخريب ممنهج ومتعمد

يُضاعف تخريب البيئة منسوب الإبادة، ليس فقط بوصفه كارثة راهنة، بل كخطر ممتد يهدد مستقبل الفلسطيني وجسده وأرضه. فبالإشارة إلى المياه فقط، تشير التقديرات إلى أن 97% من مياه غزة باتت غير صالحة للاستخدام البشري، في ظل توقف جميع محطات معالجة مياه الصرف تقريباً، وتسرب المياه الآسنة إلى الخزان الجوفي ولم يعد أمام السكان سوى استخدام مياه البحر المالحة والملوّثة للاستحمام وغسل الملابس، بل وحتى للشرب تحت وطأة العطش.

ترافق الانهيار البيئي، بانهيار النظام الصحي تحت وطأة القصف والحصار، حيث استُهدفت المستشفيات، وتوقفت إمدادات المياه ومستلزمات التعقيم، ما جعل مكافحة العدوى شبه مستحيلة. ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، تفشّت العدوى في جروح المصابين وعمليات الجراحة والولادة، بينما يواجه المرضى كارثة صحية مركّبة، تجمع بين أجساد أضعفها الجوع، وبيئة ملوّثة تُغذّي المرض والموت معاً.

حذرت مؤسسات حقوقية فلسطينية وأممية وبشكلٍ متكرر، من ارتفاع حالات الإصابة بسوء التغذية في القطاع مع مواصلة «إسرائيل» تشديد إغلاقها للمعابر منذ مارس/آذار الماضي، ما تسبب بتفشي المجاعة ووصول مؤشراتها إلى مستوياتٍ «كارثية».

هذا غيض من فيض نتائج سياسات النظام الإمبريالي العالمي وحبيبته المدللة «اسرائيل»، والذي ليس ثمة حدود لإجرامه عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن وجوده وبقائه، ومع ذلك لم تتمكن كل تلك الوسائل من إخضاع شعب أعزل محاصر، صمد بشكل أسطوري أمام الوحشية والتعنت وما زال صامداً لم ولن يستسلم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1239