بين فقدان المبادرة وامتلاكها وتجذيرها كمحدِّدات للقادم

بين فقدان المبادرة وامتلاكها وتجذيرها كمحدِّدات للقادم

على الرغم من قساوة وتعقيد الأحداث، وبشكل خاص في منطقتنا، وما يوحيه المشهد العام بتعطّل الحياة السياسية التي تنقل الصراعات إلى المستوى العقلاني البنّاء، إلّا أنَّ الضرورة الداخلية للصراع العالمي لا تزال قاعدةً لاحتمالات تطور هذا الصراع ورسم توازناته، ومحدِّدةً لمن يملك المبادرة السياسية.

تعطل المبادرة والتدمير

إذا ما أزحنا التحليلات السياسية المباشرة، صار من الواضح حتى عند المحللين السياسيين غير المؤدلجين فلسفياً أنَّ أفقَ مبادرة قوى العالم القديم مسدودٌ، ولم يعد في جعبة تلك القوى إلّا خيار التدمير، وهذا الموقف صار مسموعاً بشكل متواتر في التحليلات اليومية. مجدَّداً، إنّ أفق أيَّ توسُّع جديد للهروب من الأزمة الرأسمالية يقضي باصطدامٍ يقف على عتبة الحرب النووية، على عكس الحربين العالميتين الأولى والثانية. والتوسع الممكن هو زيادة حصة مركز المركز على حساب أطراف المركز الإمبريالي، وهذا له حدوده المؤقتة أيضاً، حيث تهدّد بانفجارٍ سياسي اجتماعي في تلك الدول كأوروبا مثلاً. وضمن شروط التوازن العسكري القائم مع دول أساسية، فإن خيار التدمير بحد ذاته يفترض عاملَ سرعة تنفيذه، ما يجعل من سياسات قوى المركز الغربي تصطدم بموانع وتعقيدات لدى قوى كانت تدور في فلكها. هذا التوازن الموضوعي مع حاجة المركز الغربي للتفجير بسرعة يلعب دوراً خانقاً نسبياً، لا نزال نراه هنا وهناك (الهند-باكستان مثلاً)، وتحديداً في منطقتنا حيث لا تزال الانفجارات ملجومةً إلى حدٍّ ما. هناك مثال الدور اليمني الفاعل، واعتبارات دول «الطوق».

مثال آخر على اللجم هو التوظيف الحالي الغربي في الممر المحاذي لأرمينيا وأذربيجان وإيران، حيث يجري في سياق إطفاء الحرب الأذرية-الأرمنية الملجومة، إذ كان سيصبح أسهل وربما حتى غير ضروري (في شكله الحالي) في حال حصلت الحرب. ولكن ما هو شديد السهولة أمام خيار التدمير هو الاشتغال بالعنصر البشري على شكل حروب أهلية أو انتفاضات لا تزال تستنسخ التجربة السابقة للثورات الملونة، وصربيا وهنغاريا نماذج على ذلك. وتفتيت الدول، وخصوصاً تلك الكبيرة منها أو عدة دول صغيرة على قاعدة إثنية-طائفية، هو بالمعنى النوعي تدمير يزيح قوى عسكرية واقتصادية وكتلاً بشرية من الصراع. وليس جديداً ولا من المبالغة القول بشكل عام بأنّ التدمير يرتد على الغرب نفسه، أو بالأحرى يرتد تدميرياً على الشكل الحالي من المجتمع والدولة في الغرب، وهنا يرتكز نموذج ما بعد الدولة وما بعد المجتمع. وهذا التوازن والحاجة للتدمير يخلق تناقضاً يفرض التسارع المذكور حتى لا تنتقل كرة النار مبكراً إلى داخل الكيانات السياسية وأجهزة الدولة الغربية قبل اختلال توازن كتل وكيانات «ما بعد الحرب العالمية الثانية».

من المؤشرات الاقتصادية سياسة الرسوم الجمركية والعقوبات، ومن المؤشرات «الأخلاقية» على هذا الانتقال هو الحركة الحاصلة مؤخراً في الغرب للهجوم على رئيس وزراء كيان الاحتلال نتنياهو كمحاولة لغسل اليد من الدماء وإيجاد سردية مقبولة لدى شعوب تلك الدول مع تصاعد الجريمة قتلاً وتجويعاً في فلسطين. هذا الانتقال المبكر يحصل خصوصاً في ظل الحاجة لتطبيق نموذج ما بعد المجتمع الذي يَخلق عالمياً وفي الغرب نفسه كوابح ولجماً كبيراً كونه يطال مجمل ما يعرف المجتمع من بنى وتنظيمات وعلاقات وقيم وأفكار مرتبطة بوجود المجتمع بغض النظر عن شكله. وكأن رأس المال يلغي التاريخ بأكمله في محاولته شطب نتيجة نوعية حاصلة يشكل إلغاؤها تهديداً لوجود المجتمع المعروف، فالعودة للخلف لا تعني تقليصاً كمياً فقط. وما اللقاء الأخير بين الرئيس الروسي والأمريكي سوى مؤشر على وزن اللجم من داخل الغرب نفسه، الذي يعني فيما يعنيه انطلاق مرحلة جديدة لا تعني الحل الكامل لانتقال النظام الدولي (كالمرحلة الحاصلة بعد الحرب العالمية الثانية) كونه في هذه اللحظة التاريخية تحتاج لتجاوز الرأسمالية، ولكنها تعني أن اللجم والتوازن وصل مرحلة ناضجة.

امتلاك المبادرة نقيضاً

إن اعتماد التدمير (والتفتيت) الشامل كسياسة يخلق، كقاعدة، حركة نقيضة لا تزال تتطور تراكمياً. فظهور هذه الحركة النقيضة في شكلها الاقتصادي السياسي المبكر في نواة البريكس وشانغهاي، ثم توسعهما، والتنسيق الثنائي والثلاثي والرباعي بين الدول على الرغم من انقطاعاته، هو بحد ذاته تعبير عن مبادرة «خارجية» الطابع مضادة للتدمير. وامتداد قاعدة المبادرة يقوم على واقع اقتصادي-عسكري-علمي في مختلف الأقاليم هو تعبير ضمني عن نقيض آليات التدمير التي لها حواملها الاقتصادية - المرتبطة بشكل كبير بالتقدم العلمي (الطاقة البديلة كالطاقة النووية والطاقة الشمسية، النقل، الاتصالات، التكنولوجيا العسكرية)...

الحاجة للترابط الشديد واللجم والكبح يحصلان بسببٍ من طبيعة أخرى للمرحلة الراهنة هي اشتداد التناقضات لحدودها التاريخية ما يقلِّص هوامش المناورة لدى القوى جميعاً، ويفرض مسارات اقتصادية-اجتماعية-سياسية نقيضاً لتلك التي تسمح لمركز النهب العالمي بالبقاء، أي عدم وحدة المصالح والمصير العالمي. هذا نفسه ما يخلق قاعدة المبادرة النقيضة، ولكنه له صعوباته أيضاً، كون الدول التي تبادر تحوي التناقضات الداخلية التي تتجاوز مشروع مبادراتها التي لها بشكل عام الطابع «الخارجي»، فوزن المبادرات الداخلية الثورية الطابع لتجاوز التناقضات الناتجة عن الطابع الرأسمالي للمجتمعات قليل في ما نراه على الساحة العالمية. ولكن كون التفتيت واعتماد الشعب والمكون البشري كسلاح تدميري، فإن وزن المبادرات الداخلية على جبهة الصراع الداخلي-الخارجي يجب أن يرتفع وزنه وسريعاً، أو هذا ما يجب أن نتوقعه.

خلاصة عامة

إنّ المشهد في منطقتنا، وعلى الرغم من سوداوية يومياته، هو تعبير يحمل صراع النقيضين، ومن هنا، إلى جانب الدماء والموت، هناك وفي الوقت نفسه هزلية المشهد في كونه تكرارياً. هذا التكرار هو نفسه تعبير عن انغلاق المبادرة ولكن في بنية اجتماعية وصراع عسكري-سياسي لا يحتملان مزيداً من المماطلة «التاريخية». وما «الافتعال» القذر لسفك الدماء (وخصوصاً دور كيان الاحتلال، المبالغ في وزنه، الذي وعلى الرغم من انفلات جريمته يعيش حالة فقدان توازن تاريخي) إلّا دليل آخر على هذا الانغلاق، حيث يكتسي «الصراع الأهلي» (في سوريا مثلاً) طابع الجريمة المنظمة الصريحة غير المتخفّية، وتناقضاتها فاقعة لدرجة أنه حتى شكلها الطائفي والمناطقي غير مكتمل وضعيف. مجدداً، تمثل منطقتنا، من فلسطين وسوريا ولبنان بشكل خاص بؤرة منفجرة لا تزال عاكساً صريحاً للصراع ضمن التوازن التاريخي الذي يزداد نضجه وسينعكس علينا في هذا الشكل أو ذاك.

هذا الصراع بين انغلاق المبادرة وانفتاحها هو في ذروته عالمياً اليوم، ويعني أننا في مرحلة ولكونها بهذه الدموية تحمل غنىً فيه كل القوى الحية في العالم، أو ما ينجو منها يوماً بعد يوم، والمؤشر عليها هو مستوى التوازن الذي يتطور، على الرغم من طول الوقت الذي يفرضه التعقيد وطبيعة الانتقال التاريخي الحاصل الذي يعني أنه لم يعد من الممكن البقاء دون تجذير المبادَرة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1239