عن الطائفية الوظيفية...
ما يحدث في الساحل السوري هي ضربة استباقية للحركة الجماهيرية الصاعدة بعد انهيار السلطة الساقطة، تتخادم فيه نفايات سلطة الأسد، مع قوى مشبوهة ضمن السلطة الجديدة، أو على أطرافها، تتوافق مصالح الطرفين موضوعياً على الأقل، في منع تحويل الصراع الملوث العبثي الدائر منذ سنوات، إلى صراع سياسي حضاري على أساس برنامج الخروج من الأزمة، ولما كان الطرفان قوى منبوذة في البنية الاجتماعية السورية، كان لا بد من إطار أيديولوجي قادر على الاستقطاب والتجييش من خلال محاكاة هواجس بنية نفسية قلقة، مثقلة بالخوف والقهر تكونت خلال سنوات الحرب، فوجد هؤلاء ضالتهم في الطائفية كبضاعة جاهزة يمكن ترويجها وتسويقها بعد سنوات من الحرب الإعلامية النفسية التي تقصف الوعي الاجتماعي.
الطائفية في سورية وعي طارئ، هي ظاهرة وظيفية مستوردة، ولا يوجد تاريخياً أساس مادي لهذا النوع من الصراع في سورية على الصعيد الشعبي العام، لا تاريخ الصراع السياسي في سورية، ولا الثقافة السياسية السورية كانا طائفيين، وما ظهر وتأطر بعد 2011 هي ثقافة أمراء الحرب، الذين تحوّل نشاطهم إلى ما يشبه عمل الشركات الأمنية الخاصة، وتستثمر في بيزنس الحرب، وهو استثمار يتقاطع بشكل مباشر مع مصالح القوى الدولية والإقليمية، التي تستثمر هي الأخرى في التنوع الثقافي الديني والقومي والطائفي لإشاعة الفوضى، وتقسيم الكيانات القائمة.
شيء من التاريخ.. وبالعربي الفصيح!
إذا أخذنا مرحلة حكم حزب البعث بعد 8 اذار 1963 كمعيار لطبيعة الصراع في سورية، سيتبين لنا من خلال التصفيات المتلاحقة التي جرت داخل السلطة، أن الصراع كان يجري بين أبناء الطائفة الواحدة، وإذا اعتمدنا الموقف من سلطة الأسد معياراً وحيداً لخط الصراع في البلاد، يمكن أن نقول: إن محمد عمران وصلاح جديد لاحقاً، وهما علويّان، هما أكبر خصوم سلطة الأسد، مما يفنّد سردية النظام الطائفي كلها... كما إن اصطفاف مصطفى طلاس وعبد الحليم خدام كليهما، ومواقفهما اللاحقة يؤكد المؤكد مرة أخرى، فالأوّل: هو أهم عرابي التوريث بعد موت الأسد الأب، والثاني: هو أوّل وأبرز من تصدى لما سمي في حينه ربيع دمشق وظاهرة المنتديات.
في الصراع الدموي مع حركة الإخوان المسلمين، حاول حافظ الأسد وينجح في تحييد المراكز السنية الأساسية في الصراع حلب ودمشق من خلال جملة من القوانين والمراسيم، التي تطلق يد الكومبرادور وقوى البرجوازية التقليدية بانتمائها الطائفي المعروف في السوق، بالتوازي مع حرمان حلفائه في الجبهة )الحزب الشيوعي( من عضوية مجلس الشعب في دورة عام 1982 ويضع بعض كوادره في المعتقلات على إثر بيان يدعو إلى احترام كرامات المواطنين، رداً على السلوك الاستفزازي لاتباع شقيقه رفعت الأسد الذين أطلق يدهم بعد أحداث حماة، وسيعتقل المئات من كوادر حزب العمل الشيوعي، ومع أغلب مكونات التيار القومي الناصري واليساري، ومن ثم سيختلف مع شقيقه بالذات رفعت الأسد، ويعقد صفقة على إخراجه من السلطة، وهو ما سيتكرر لاحقاً مع الوريث عندما اختلف مع ابن الخال خازن بيت مال السلطة.. ما أردنا قوله من خلال هذا العرض الموجز لتاريخ الصراع السياسي في عهد سلطة الأسدين، وبالأسماء والوقائع: إن خط الصراع الأساسي في سورية لم يكن طائفياً على الإطلاق، وإن سردية الصراع الطائفي في سورية، والسعي إلى إقحامه ودفعه إلى صدارة المشهد، هي في جُلّها ظاهرة مصنّعة في إطار الحرب الإعلامية النفسية، وتأتي في سياق فرض الثنائيات الوهمية على الوعي الجماهيري.
السلطة في سورية وخصوصاً في عهد الأب لم تكن الا نسخة كاريكاتورية من بونابرتية تتمظهر بأنها فوق الصراعات، وتهيمن على المجال العام، وتستخدم التكتيكات والأدوات كلها: الأديان والطوائف والقبائل، ومعاهد تحفيظ القرآن، والمساجد والكنائس، والأحزاب، وحتى وزن سورية الإقليمي، لأمرين ثابتين: توسيع مطرد لقنوات الفساد، وتراكم الثروة، بالتوازي مع قمع أو إقصاء لم ينجُ منه لا رفيق درب، ولا شقيق، ولا ابن خال، ولا حليف، ولا علماني، ولا متديّن، لينتج سلطةً كانت تبدو قوية ومتماسكة وصلبة، ولكنها في حقيقة الأمر هشة ومخترقة بالطول والعرض، وباتت عاجزة تماماً عن إدارة التوازن الاجتماعي، بدلالة ما حدث من انهيار سريع في 8 ديسمبر، فور رفع الغطاء عنها.
كيمياء الطائفية
أدت السياسات الاقتصادية، الاجتماعية للسلطة الساقطة إلى تبلور شرائح اجتماعية واسعة من المهمشين، خصوصاً في الريف وأطراف المدن الكبرى، تعاني من الفقر والحرمان، ومظاهر القهر الاجتماعي كلها، في ظل عالم مفتوح بفعل الإعلام الرقمي، بالترافق مع مظاهر الترف والاستهلاك الاستفزازي، والبطر لشريحة ناهبة وفاسدة، هذه المفارقة عمقت حالة الاغتراب لدى هذه الشرائح الاجتماعية العريضة، التي أصبحت تحت رحمة ثقافة إعلام البترودولار التي لم تكف يوماً عن بث السم الطائفي، أضف إلى ذلك ما يمكن أن نسميه جيل الأزمة... فالطفل الذي كان عمره 15 عاماً مع بدء تفجر الأزمة أصبح الآن في سن الثلاثين، وتشرّب بثقافة الأزمة بكل ما فيها من تشوّه، وتكون وعيه السياسي خلالها، أضف إلى ذلك الدور الذي يلعبه نموذج المثقف– والسياسي المأزوم العاجز والهامشي، الذي وجد في عموم انتماءات ما قبل الدولة ضالته، حتى يجد لنفسه حيّزاً، ويأتي السلوك الاستفزازي الأرعن للجماعات المسلحة وأمراء الحرب، وسلوكها العملي على الأرض، وردود الأفعال عليها أحد مكمّلات العبث الطائفي، أضف إلى ذلك كله، غياب فعالية القوى السياسية الجادة القادرة على توظيف حالات الاحتقان والشحنات الوجدانية العاطفية بالاتجاه الصحيح، ترك شرائح سورية واسعة عرضة لتأثير الخطاب الطائفي البغيض، ومفاعيله، حتى يمكن اعتبارها مجتمعة كيمياء أي مشروع طائفي.
الخروج من المستنقع
تشير التجربة، بأنه لا يمكن ردع الخطاب الطائفي، بخطاب طائفي آخر، ومن يحاول ذلك يدخل ضمن اللعبة القذرة، والمشبوهة- لعبة تلويث الوعي الاجتماعي- من حيث يريد أو لا يريد، فكل خطاب طائفي يخدم الخطاب المضاد له، التضاد هنا شكلي ظاهري لزوم تصاعد المزاج الطائفي، وترسيخه في الوعي الجمعي، ضمن جدلية الفعل ورد الفعل.
ومن هنا كان القول: ينبغي البحث عن حلول من خارج دائرة هذه الثقافة الملوثة، وخطاب رد الفعل، وفي هذا السياق لا يكفي أيضاً الحديث عن الأخوة والتضامن الاجتماعي على أهميتهما من الناحية الأخلاقية، بل ينبغي قبل كل شيء السعي إلى تجفيف المستنقع، وتصفية البيئة السياسية والأمنية التي ظهر الخطاب الطائفي وتنامى من خلالهما، أي حل الأزمة الوطنية الشاملة التي تمر بها البلاد حلاً حقيقياً، من خلال معالجة أسبابها ومقدماتها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1218