مملكة «الخوف والجوع»
لم تكن أحداث ومجريات سقوط السلطة السياسية في سورية، ولا الفترة الزمنية القصيرة جداً التي حدثت بها، بعد سنوات من انفجار الأزمة، السبب الوحيد في تعاظم شعور السوريين بالصدمة، بل ما حدث في الأيام التالية، فقد جعلتهم صدمة ما حدث في سجون الطاغية يقفون أمام الحقيقة المرعبة حول حجم السجن الكبير الذي كانوا يعيشون فيه.
عبّر الناس عن أفكارهم حولها بشكل مباشر حينها، ووصفوا مشاعرهم على صفحات التواصل: «للأسف نحنا كلنا طلعنا مسجونين، بس على درجات، ناس بحفر ومنفردات وزنازين، وناس ببيوتها، بالحي وبالبلد... المسجون بالزنزانة بيعطوه خمس زيتونات ليضل عايش ويضلوا يعذبوه. والناس الي برا كمان عطوها فتات ليضلوا عايشين، كنا مفكرين المعتقلين هنن فقط المسجونين، طلعت البلد كلها مسجونة لكن بدرجات...». وأكملوا توصيف الحالة بكلمات واضحة: «إذا بالسجن ممنوع تحكي، كمان برا ما كنا نسترجي نتنفس، ونخاف حتى من خيالنا... للأسف نحنا كلنا اليوم طالعين من السجن». وأضافوا: «وأنوا الطاغية ما اكتفى بسجن الأجساد، سجن أفكارنا وطموحنا وعواطفنا، وكل شي حلو فينا...».
تثبت الكلمات البسيطة السابقة حقيقة حجم خسارة السواد الأعظم من السوريين وعمقها، فليس هناك بيت أو عائلة، مهما كان لونها ودينها وطائفتها، لم تخسر وتدفع الفاتورة دماً وتهجيراً ونزوحاً وفقداناً... إلخ، خسارات كبيرة وعديدة، أخذت أشكالاً مختلفة، أنتجها عهد من الاستبداد وطغيان الحاكم وأمراء الحرب.
بين لغة وأخرى
يتكئ الاستبداد وإفرازاته على منظومة متكاملة سياسة ثقافية اجتماعية...إلخ، معتمداً على معطيات تاريخية وواقعية لخدمة أغراضه، تقوم على التشويه والتزييف سواء بحق الذات أو الآخر، فيمعن في تشويه الهوية الوطنية والثقافية الجامعة في البلاد والمبنية على التنوع والتعددية، باصطناع مظلوميات متعددة ومتنوعة وقائمة على انتماءات مختلفة وموجودة فعلاً ومتوارثة للجماعات، يؤثر من خلالها على الوعي الجمعي والتاريخي للناس والأجيال اللاحقة. وبذلك يتمكن من التحكم واحتكار السلطة لنفسه دون مشاركة المجتمع المتنوع.
وعلى المستوى الفكري والثقافي يقوم باستخدام الإقصاء والتهميش وإلغاء الآخر والتلاعب بالحقائق التاريخية والرقابة على الأفكار والمعرفة لتشويه الوعي العام لدى الناس. فيصطنع وعياً مشوهاً، يختزن من خلاله الصور المؤلمة تاريخياً بعد سلخها عن سياقها التاريخي والظروف التي أدت إليها، وخصائص المرحلة التي جرت فيها، وحتى أشكال القوى التي نفذتها والأفكار المحددة التي كانت وراء ما جرى، وبذلك يجعلها مادة للحقد والكراهية ونشر الضغينة بين الناس لتتحول مع مرور الوقت إلى جزء رئيسي من الانتماء والهوية الفردية والمتوارثة. ومع أنها في الواقع ليست سوى معطى تاريخي يمكن الاستفادة منه علمياً ومعرفياً لأخذ العبرة والخبرة، حتى لا تتكرر مآسي الماضي وتجاربه المظلمة ويتعلم منها الناس ابتكار لغة جديدة تتصالح مع التجربة وتعبر عن مصالحهم في العيش المشترك. يقوم المستبد، وبتكرار هذه العملية، بمراكمة المزيد من الضغائن لتصل إلى درجة عالية من الحدة، وتجعل الناس يعتقدون باستحالة الحل الداخلي، وباستمرار الصراع ولغة الاقتتال كحل وحيد، والوصول في نهاية المطاف إلى الاستقواء بالخارج للاعتراف بهم وبحقوقهم التي سلبها هو منهم.
ثنائية (الخوف والجوع)
لم يكن أساس الصراع في سورية مبنياً على العقائد، بل كان في أسّه وأساسه صراعاً سياسياً اقتصادياً اجتماعياً بين الغالبية العظمى من السوريين وبين سلطة تريد الاستحواذ على كل شيء مستخدمة أقصى درجات الترهيب لذلك وضعت الناس في مواجهة بعضهم وجعلتهم يتخندقون ضد بعضهم في ثنائيات مزيفة للتغطية على ثنائية (الخوف والجوع) الحقيقية التي قمعتهم بها. واليوم وحتى بعد سقوط تلك السلطة، يدفع الخوف ذاته بكثيرين لطلب تطمينات خارجية، ويدفع القصور المعرفي عند البعض الآخر من هؤلاء إلى الطلب نفسه، صحيح أن تعنت السلطة السابقة ساهم في تدويل الأزمة السورية في بعض مراحلها ولكن اليوم ثمة وضع مختلف. حيث ترجح الكفة لصالح العمل السياسي الفعال في الداخل السوري، الذي أصبح وزنه أهم وأعلى بكثير. واليوم أكثر من أي وقت مضى تحتاج الأطراف المختلفة لانتزاع اعتراف السوريين بها أولاً وقبل أي أحد آخر.
«روح لعند جارك»
كتب أحدهم على صفحته مازحاً: «بدك تطمينات خارجية، روح لعند جارك». وهذا الكلام لم يأت من فراغ وليس مجرد مزحة، فقد ذهب كثير ممن انتابهم الخوف في الأيام التالية للسقوط إلى جيرانهم. الجار الذي عرفوه وعايشوه في سنوات الحرب والبؤس والجوع كان التطمين الوحيد الحقيقي المتبقي لهم.
لا يلام الناس على خوفهم، وهم يعيشون اليوم في حالة من الترقب والأمل بما يمكن أن يحقق لهم ما يستحقونه في العيش الكريم في بلادهم. ولا يلامون حتى على بعض مشاعر اليأس والإحباط التي تتملّك قسماً منهم. فما زالت تركة السنوات السابقة موجودة يحملونها على أكتافهم. وتظهر في ملامح وجوههم.
يشعر كثيرون ممن غادروا البلاد قسراً باليتم، فثمة «جزء مفقود من الهوية لا يمكن توضيبه في حقيبة السفر»، كما كتبت إحداهن ذات مرة، وقد كسرت الغربة والنبذ والحرمان كبرياءهم وجرح انتشارهم في أصقاع الدنيا ونظرات الغرباء الباردة لهم أرواحهم، ولم يكن حال من بقي في الداخل أفضل، إذ كسرت سجون السلطة أرواح البعض منهم، وأكملت سجون الخوف والعوز والظلم والضيق على الباقين.
وهكذا جرى إحكام السيطرة على البلاد والعباد لعقود مضت، فكان لا بد من إخضاع الأغلبية وسجنهم ليس في داخل البلاد فقط، بل حتى في خارجها، ولذلك «سقطت دفاعاتهم جميعها، في اللحظة التي عادت فيها البلاد لتكون لهم، واعترفوا بأن جل ما يريدونه فقط هو العودة إلى البيت».
والسلطة لا ترضى بالمشاركة حتى ضمن «الفئة الواحدة». فهم مجرَّد «مستخدَمين» بالنسبة لها، توزع عليهم الفتات، حسب درجة الخنوع، لتحصل على كل شيء، وليخسر الجميع، وتكون هي الرابحة الوحيدة في لعبة السيطرة والاستحواذ على كل شيء.
يدرك الناس أن ما جرى إلى الآن ليس كافياً من أجل الخروج من المأزق الذي حشر به المجتمع السوري عامة، وأن التعويل على الخارج و«تطميناته» لا يجدي، وأن أمامهم طريق طويل لإيجاد حلول حقيقية للمشكلة الأساسية هنا، وهي سياسية بالدرجة الأولى وتتطلب حلاً سياسياً، بكل ما يترتب عليه من توزيع الثروة والعدالة الاجتماعية والحريات السياسية...إلخ. فما يحكم علاقة الأفراد بالدولة هو السياسة، وأن حلّ المشكلة يقوم على حركة المجتمع باتجاه مصالحه وبحراك سياسي اجتماعي تعبر عنه الأحزاب والتجمعات والمجالس المختلفة والنقابات...إلخ.
بين التفاؤل والتشاؤم
يتأرجح الجميع اليوم بين التفاؤل والتشاؤم، والفرصة متوفرة لكلا التوجهين. ثمة حاجة لجهود كل السوريين، وهناك عمل وجهد كبير ينتظر الجميع، رغم حساسية الوضع العام ورغم الأخطاء التي يرتكبها الجميع أيضاً بعد غياب طويل عن العمل السياسي والاجتماعي المنظم، ورغم سوء المشاكل والأوضاع التي تعاني منها البلاد كلها إلا أن الفرصة أيضاً كبيرة أمام الجميع ليساهموا ببناء سوريتهم التي يريدون على أساس المواطنة المتساوية، فالانتماء السوري هو حقيقة وجودهم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1214