حكاوى القهاوي
ليس ترفاً استعادة السوريين في هذه الأيام الحرجة لبعض أغاني زياد الرحباني التي تحكي عن الجوع والذل الكافر.. وحنينهم إلى أشعار مظفر النواب، وخاصة تلك التي تلامس ما يعانونه بشكل يومي من تفاصيل في حياتهم.
يصف كثيرون المشهد بأنه «سوريالي» في الوقت الحالي، في سورية التي تشبه مواطنيها، أو يشبهونها، بلاد غارقة في الأزمات لم تتحدد بعد ملامحها الجديدة بشكل نهائي بعد إسقاط السلطة فيها.
ثمة ارتباك واضح ومخاوف عميقة عند الناس بالعموم، رغم مشاعر الفرح والارتياح التي تلت سقوط السلطة مباشرة، مخاوف من تكرار السيناريو و«عودة القديم بثياب جديدة»، وهي مخاوف محقة تعززها هشاشة الوضع القائم في البلاد عموماً، بحيث تجعل من حركة خرقاء كافية لتبدل الحال، وتبدد تضحيات السوريين في السنوات السابقة. ثمة قلق مبرر يثيره سلوك وقرارات مرتبكة ومرتجلة، في أوضاع تتطلب الكثير من الفهم والتأني ومشاركة الآخرين، قلق يشتد في أوساط معينة، رغم تفاؤل الناس وتفاعلهم مع حالة تجنب وتحاشي الانزلاق في مسلسل انتقامي، سببته تركة ثقيلة من انتهاكات وقمع السلطة السابقة ومعارضيهم من حملة السلاح حينها، قلق تسهم في انتشاره أكثر أسباب عديدة من أهمها: تدهور الوضع المعاشي للناس بالعموم.
الاستماع لصوت الشارع
أمام هذا الواقع، يُظهر الناس مستوى عالياً من النشاط السياسي، يجتمعون ويتحدثون ويناقشون ويستمعون لمختلف الأصوات في محاولة لتجاوز الأزمة، وإيجاد الحلول، تدفعهم الرغبة بالمشاركة في إدارة الواقع الجديد المؤقت، والخروج منه إلى حالة من الاستقرار.
في العاصمة دمشق تحولت كثير من المقاهي والصالات لأماكن انعقاد منتديات ولقاءات شبه يومية للحديث حول مستقبل سورية، وقضايا أخرى تحت هذا الشعار، منها: الطائفية والعلمانية والعدالة الانتقالية وحقوق المرأة والتعبير.. الخ. وتنظم فعاليات متعددة ضمن هذا الإطار. يشارك فنانون وصحفيون وإعلاميون ومثقفون من مشارب مختلفة في هذه الأنشطة.
مقهى عن مقهى يختلف
في أحد المقاهي ينبري أحدهم للحديث ببلاغة وحماس، مُنظّراً للمستقبل الذي طال انتظاره، مركزاً على أهمية التعايش وبناء الديمقراطية ونبذ الطائفية، ويحاول آخر أن يشرح مفهوم العدالة الانتقالية، وتنهال من فمه مجموعة من التعاريف والمعلومات التي استقاها من دورات سابقة حضرها في مكان ما، ويقدم ثالث مداخلة مطولة ينثر فيها باقة من المصطلحات الفلسفية المجردة. يهز كثير من الحاضرين الجدد رؤوسهم، وتنتهي الجلسة غالباً بتثاؤب هنا، وأحاديث جانبية هناك. ما يميز كثيراً من هذه الجلسات هو تغير الحضور، فالسوريون، رجالاً ونساءً، نهمون إلى السياسة والحديث والنقاش، ومع ذلك يكتفي كثير منهم بجلسة أو اثنتين ويغادر، إما إلى البيت بعد أن يشعر بعدم جدوى حضور هكذا ملتقيات، فيها الكثير من «الحكي غير المفهوم»، أو ييمم وجهه إلى مقهى آخر باحثاً عن حديث «يبل القلب» كما وصفته إحداهن بعد حضورها لجلسة «مرطبات سياسية» في أحد المقاهي، ورغم غرابة عنوان اللقاء وما يبطنه من معنى، إلا أنها عبرت عن رغبتها بالعودة، فعلى الأقل «عم نفهم عن شو عم يحكو هون» حسب تعبيرها.
الهوية الاجتماعية الاقتصادية
يعرب كثيرون عن آراء سلبية في هذه اللقاءات، مصدرها ليس فقط الخطاب المتعالي (غير المفهوم) كما وصفه البعض، بل في الاتجاهات التي يمثلها هذا الخطاب. ليس صدفة أن يجري التركيز والدفع في النقاش حول بعض المسائل والقضايا دون أخرى، وهو ما تقوم به غالباً بعض قوى المجتمع المدني، أو هدر الوقت والاستطراد في صراع السرديات والمماحكات الكلامية، وردود الأفعال المؤقتة وتحويلها إلى مواقف ومواقف مضادة، وشحن المجتمع نفسياً وذهنياً، وحشرهم ضمن ثنائيات مزيفة وجامدة، كتساؤل البعض عن أسباب الحراك الشعبي، وهل يتحرك الناس لأنهم فقراء وجوعى، أم سعياً للحرية والكرامة؟ وكأنهما أمران مختلفان وغير مرتبطين، بينما خرج الناس في الموجة الأولى للحراك الشعبي تعبيراً عن غضب متراكم لسنوات من الفقر والجوع والأحوال المعيشية الصعبة، ومن أجل كرامتهم التي تنتهك لأتفه الأسباب.
يتحدث الناس عن أوجاعهم بوضوح، ويعون ما يريدون، ويبلورون مطالبهم وفق ذلك شيئاً فشيئاً. يبدأ وعي الناس بما يمسهم ويلمسهم فردياً، ثم يبدأ بربط تلك المطالب الاقتصادية بالسياسية، ويصبح دور (النخب) هنا في التعلم منهم لهذا الربط بين المحورين، فعملية التعلم هنا متبادلة! وقد أدى الانتقال من الاقتصادي الفردي إلى السياسي إلى تحولات ثورية في أماكن مختلفة من العالم مرات عديدة. واليوم تظهر أمام السوريين الفرصة والإمكانية للإجابة عن أسئلة الصراع الاجتماعي، التي تجاهلتها السلطة الساقطة، وعملت على إخفاء تبعاتها عبر تجييش المجتمع في ثنائيات واستقطابات لا مبرر لها سوى استمرار الهيمنة على الناس وقمعهم. يعي الناس اليوم ومن خلال تجربتهم تلازم المسارات وأهميتها كلها، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ديمقراطية، وترابطها عضوياً.
«الجعجعة والطحين»
يغضب الكلام عن التعلم من الجماهير نخباً اعتادت على التعامل السطحي والفوقي مع مطالب الناس وقضاياهم الأساسية والجذرية. يُكثر هؤلاء من (الجعجعة) والتنظير، وعندما تُطرح عليهم فكرة تنظيم الناس وتوحيد قواهم، لتحقيق المطالب، ينظرون بتعالٍ، ويقدمون إجابات متهكمة، «قدم ما تراه مفيداً لسورية وللسوريين، فلا أحد يمنعك من ذلك أبداً، ادعُ السوريين القادرين، واذهب إلى المخيمات، أو إلى ريف دمشق، أو إلى أماكن أخرى، وقدم للناس معونات غذائية وصحية ووقود للتدفئة..». يمثل حديث كهذا منطقاً معيناً ووجهة محددة في التعامل مع قضايا الناس.
هل يمكن بناء اقتصاد «سورية المستقبل» بالاعتماد على المعونات، سواء كانت خارجية أو داخلية؟ وهل تحل المشاكل المختلفة التي أثقلت على الناس بالكلام فقط؟ وهل يمكن بناء «الديمقراطية» بالمماحكات الكلامية، والوصفات الاقتصادية القادمة من الخارج؟ وهل سأل أحد السوريين الذين يحاضرون فيهم عما يريدون فعلاً، وعن كيفية تحقيقه؟ وهل وهل... الخ.
أسئلة كثيرة تطل برأسها، وتنتظر الإجابات. ورغم ما يحدث الآن كله وآراء الناس المختلفة حوله، إلا أن له إيجابية هامة، حيث يجري فرز الناس والقوى السياسية والنخب المثقفة والفنية وغيرها، ضمن عملية ملحة ومطلوبة لبناء الجديد. إن تذكّر الناس لمفردات زياد الرحباني في أغنية «أنا مش كافر.. بس الجوع والذل كافر، ولكن شو بعملك إذا اجتمعوا فيي كل الاشيا الكافرين»، إضافة إلى أشعار النواب، وتداولها شوقاً واعترافاً مضمراً بما يريده الناس فعلاً.
يعي السوريون اليوم أن الثورة أمامهم وليست خلفهم، وأن ما تحقق هو إنجاز شاركوا به، وقدموا تضحيات كبرى في سبيله، وأن الهدم وحده لا يكفي، وما زال أمامهم طريق طويل وشاق للبناء.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1211