ضدّ «صنميّة النقاء»... المقاومة بين العِلم التحرّري والأيديولوجيا
«إن كان ولعك بـ(صنميّة النَّقاء) يطالبُ بثورةٍ مناهضة للاستعمار بلا دماء، فسوف يكون مصيرك إدانةَ حركات التحرر التي تشنّها الشعوب المستعمَرة. وسوف تكون مقيداً بلعب دور المدافعين عن الإمبريالية... وسيكون (انحيازك) إلى المضطهَدين مشروطاً دوماً ببقائِهِم مضطهَدين؛ فلن تكون معهم إلا بقدر ما يبقون ضحايا، ولكنك لن تكون معهم أبداً عندما يقاومون ويصبحون قوة تحررية». بهذا الانتقاد افتتح الشيوعي الكوبي-الأمريكي كارلوس غاريدو مقالاً هامّاً من حيث وضوح الموقف تجاه «طوفان الأقصى» بعد أيام قليلة من السابع من أكتوبر 2023.
في كتاب «صنميّة الطهارة وأزمة الماركسية الغربية»، الصادر في ربيع العام 2023، اقتبس كارلوس غاريدو عن المؤرخ والشيوعي الإيطالي دومينيكو لوسوردو (1941–2018) انتقاده لهذا الموقف تجاه الشعوب المستعمرة، مَوقف الذين يصفقون لها فقط عندما تكون ضعيفة وينصرفون عنها عندما تظهر قوّتها ومقاومتها الشرسة ضد ظالميها ومحتلّيها. قال لوسوردو إنّ أمثال هؤلاء «لا يمكنهم التعاطف مع الشعب الصيني والفيتنامي والفلسطيني، إلخ، إلا عندما يكونون مضطهَدين ومهانين وعاجزين (أي بينما يظلون خانعين للقوة الاستعمارية والإمبريالية)؛ وبالتالي، لا يمكن لهؤلاء دعم النضال من أجل التحرير الوطني إلا بالقدر الذي تتم هزيمتهم فيه».
وفي مؤلّفه عن «انهيار الأممية الثانية» كتب لينين: «لا توجد ظواهر (نقية)، ولا يمكن أن توجد، سواء في الطبيعة أو في المجتمع – هذا ما يعلّمنا إيّاه الديالكتيك الماركسي، لأنّ الديالكتيك يُظهِر أنَّ مفهومَ النقاء ذاته يشير إلى ضِيقٍ معيَّن، وجانبٍ واحدٍ من الإدراك البشري، الذي لا يمكنه أن يحتضن موضوعاً بكل كليته وتعقيده».
«صنمية النقاء» ضدّ فهم «العباءة الأيديولوجية»
إنّ الموضوع الذي يتحدّث عنه هذا النقد الذي يقدّمة غاريدو يتقاطع مع فهمنا لظاهرة هامّة في تحديد الموقف السياسي والعملي والنضالي من حركات المقاومة الإسلامية في منطقتنا، مثل حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله. فالمقاومة كما كلّ الظواهر «معقّدة» وليست نقيّةً في كل زمان ومكان، والنقاء هنا ليس حكماً أخلاقياً، بل نقصد النقاء المتخيَّل عبر تعميم نموذجٍ واحدٍ للمقاومة ضد الاستعمار والإمبريالية، كان بالفعل له تاريخه الهامّ، في منطقتنا والعالَم، متمثّلاً بأنه كان ذا عباءة «شيوعية» أو يسارية أو قومية عربية... ولكن ظروفاً تاريخية أدت لتراجع هذا الشكل الأيديولوجي وكسوفه المؤقت بالمعنى التاريخي، إبان فترة التراجع خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ولكن كما تم التأكيد مراراً بأنّ المجتمع كالطبيعة لا يقبل الفراغ، ولذلك ستنشأ ونشأت مقاومات هذه الشعوب بشكلها المعاصر الذي نراه، وهي في محتواها واتجاهها الأساسي تقدّمية لأنّها تضطلع بلعب دور رأس الحربة في الصراع مع الإمبريالية الأمريكية والحركة الصهيونية وأخطر كيانٍ عنصري استعماري في التاريخ الحديث: «إسرائيل» / الكيان الصهيوني.
ولذلك فإنّ الموقف التقدّمي السليم من نضال المقاومة ضدّ العدو الصهيوني الفاشي يهمّه أنّها مقاومة ناجحة في أداء مهمّتها، وأقلّ أهمّية بكثير ما هي العباءة الأيديولوجية التي ترتديها طالما أنّها تؤدّي مهمّتها بنجاح -إنّها «يسارٌ فِعليّ» في هذه المهمّة- وفي الحقيقة حتى إذا راجعنا بعض أدبيات هذه المقاومة نجدها هي نفسها مضطرة بشكلٍ أو بآخر إلى أنْ تنظر إلى نفسها وتقدّم نفسَها على أنّها أوسع من عباءتها الأيديولوجية الضيّقة، ونرى أنها تصدر خطاباً يلامس القضية الأممية أيضاً بشكل أو بآخر، على الأقل في أنّ الصراع مع الإمبريالية والصهيونية بوصفهما الظلم الأكبر في عصرنا، هي قضية أممية بالفعل. فلنقرأ على سبيل المثال ما قاله الشهيد حسن نصر الله أمين عام حزب الله في أحد خطاباته القديمة:
«إنّ الخيار الكربلائي هو هذا المضمون، هو هذه الفكرة، هو ليس خياراً مذهبياً، ليس خياراً طائفياً، ليس خياراً شيعيّاً، ليس خياراً إسلاميّاً بالمعنى الطائفي. هو خيارٌ لكلّ إنسان، كلّ شعب، كلّ فئة، كلّ قوم، تقرِّر أنْ تدافِع عن حقّها، وأنْ تضحّي من أجل حقّها، وأنْ تبذلَ دمَها، وأنْ ترفضَ الذلَّ والهوان، وتقف وتجاهِد وتضحّي، ستنتصر، مهما كان العدوّ قويّاً وجبّاراً وقاهراً».
وفي خطاب آخر قال نصر الله: «أنا أقول أنّ خيار الشعب الفيتنامي كان خياراً كربلائيّاً، رغم أنّ الشعب الفيتنامي لم يسمع بالحسين عليه السلام. خيار غاندي ونهرو وهؤلاء... هم أيضاً كانوا يتحدثون أنّهم تعلّموا المواجهة من الحسين بن علي. الخيار الكربلائي هو خيار إنساني ينطلق من فطرة الإنسان، فالإنسان بفطرته يرفض الذلّ والهوان والظّلم، ويسعى إلى أنْ يكون هو وشعبُه وأمّته عزيزاً كريماً مصاناً، يعيش حياة هانئة وسعيدة».
تقييم ماركسي غير صنميّ لـ 7 أكتوبر
ضمن فهم مشابه لهذا وبعيداً عن الوقوع في «صنميّة النقاء» استطاع غاريدو أن يتخذ موقفاً ماركسياً سليماً تجاه أحداث السابع من أكتوبر 2023 وما تلاه من حرب الإبادة الجماعية الصهيونية في غزة. ونورد فيما تبقى أدناه ما نشره غاريدو بعد ثلاثة أيام من «طوفان الأقصى»:
إنّ معاملة اليسار الغربي للعنف، تشبه معاملته لكل شيء آخر؛ إنها معاملةٌ مجرَّدة، لأنها عاجزة عن التمييز بين أشكال معيَّنة من العنف؛ بين العنف الدائم الذي يمارسه المضطهِدون، والعنف التحرري الذي يمارسه المضطهَدون. إنّ مساواة عنف نضال الشعوب من أجل الحرية بعنف المستغلِّين والمضطهِدِين أمرٌ سخيفٌ وفارغ، تماماً مثل القول بأنّ «السيف الذي يلمع في أيدي أبطال الحرية يشبه السيف الذي يتسلح به أعوان الطغيان».
إنّ القضية الأساسية هنا في العنف هي مَن يمارسِهُ وضدَّ مَن، ولأيّ غاية. إنّ الانتفاضة الفلسطينية هي عنفٌ مشروع للدفاع عن النفس يمارسُهُ شعبٌ ضدَّ «دولة» احتلال تمارِس نظامَ الفصل العنصري. إنّه عنفُ المستعمَرين ضدَّ المستعمِرين من أجل الحرية. إنّه عنفٌ تم اللجوء إليه كملاذٍ أخير في نضالٍ طويل ضد الاستعمار الصهيوني. إنّه الطريق الوحيد الذي تركَهُ المستعمِرون للفلسطينيين للقتال من أجل حريتهم. إنّ العنف، كما أشار فيدل كاسترو، هو الطريق الذي يفرضه الظَّالمون على الشعب، حيث يتم اللجوء إليه عندما تستنفد كل وسائل النضال الأخرى، أو لا تكون كافيةً لوحدها. إننا لا بد وأن نتذكر كلمات باولو فرييري: «لم يسبق في التاريخ أن كان المظلومون هم البادِئون بالعنف».
ولكن نضالهم من أجل الحرية لا يقتصر على الفلسطينيين. إنّ هزيمة «إسرائيل»، البؤرة الاستيطانية للإمبريالية الأميركية فيما يسمى «الشرق الأوسط» أو «ربيبة الإمبريالية في الشرق الأوسط» كما وصفها كوامي توري، ستكون انتصاراً للبشرية جمعاء.
إن هزيمة الإمبريالية في أي ركن من أركان الأرض، كما أشار تشي غيفارا، لا بدّ وأن يَحتَفِلَ بها كلُّ شيوعيّ وكلُّ شخصٍ مدفوعٍ بحبٍّ عميق للإنسانية. إنّ الإمبرياليّين يكرهون البشرية؛ ونظامهم الرأسمالي يقوِّض، كما أشار ماركس «المَصدَرين الأصليَّين لكل ثروة - الأرض والعامل». إن النضال الفلسطيني ضد البؤرة الاستيطانية الاستعمارية (الإسرائيلية) العنصرية هو نضالٌ من أجل الإنسانية، من أجل المستغلِّين والمضطهَدين في مختلف أنحاء العالم. إنّه نضالٌ من أجل الحياة، نضالٌ ضد آلة الموت الإمبريالية-(الإسرائيلية).
إنَّ الظلم الذي يمارسه «الإسرائيليّون» على الفلسطينيين يفسد الروح البشرية للظالمين أيضاً. وكما قال السياسي ديونيسيو يوبانكي، من شعوب البيرو الأصلية، في خطابٍ له عام 1810: «إن الشعبَ الذي يَضطهِدُ شعباً آخر لا يمكن أن يكون حرّاً». ولا يمكن للمستوطنين «الإسرائيليين» أن يكونوا أحراراً، ولا يمكن أن يختبروا استقلالاً إنسانياً حقيقياً، بقدر ما يربطون وجودهم بقمع وإبادة الشعب الفلسطيني. وفي قمعهم للفلسطينيين، فإنهم يخنقون قدرتَهم هم أنفسهم على العيش حياة إنسانية كاملة... إنّ المجتمع الذي يقوم على مثل هذا الازدراء والمحو الظالِم «للآخر» يدمِّر نفسَه من الداخل.
إنّ الحرية الفلسطينية لا بدَّ أن تُكتَسب، على حدّ تعبير مالكولم إكس «بأيّ وسيلة ضرورية». إنّ النضال الفلسطيني الظافر هو في مصلحة البشرية جمعاء؛ لكل الشعوب العاملة والمضطهدة في العالم.
ويتعين على الاشتراكيين أن يقفوا إلى جانب النضال الفلسطيني من أجل الحرية. ويتعين علينا أن نتصدى لجهود الإبادة الجماعية الصهيونية، وتلك التي يردّدها ساستُنا الرأسماليون الفارغون أخلاقياً.
إن الإنسانية ترى نفسها في نضال الفلسطينيين، لأنّه وكما قال تشي غيفارا: «هذه الإنسانية العظيمة قالت: كفى! وبدأت في السير. ولن تتوقف مسيرة العمالقة حتى يحققوا الاستقلال الحقيقي، الذي ماتوا من أجله أكثر من مرة دون جدوى. والآن، على أية حال، فإن أولئك الذين سيموتون، سيموتون مثل أولئك الذين في كوبا، أولئك الذين في (بلايا خِيرون)، سيموتون من أجل استقلالهم الوحيد الحقيقي غير القابل للتصرف!».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1197