في استعادة لـ «التهديد الحضاري ومصير الإنسان» لدى تولياتي (3)

في استعادة لـ «التهديد الحضاري ومصير الإنسان» لدى تولياتي (3)

كاستكمال للسياق حول عرض بعض جوانب الأزمة والتهديد الحضاري نتيجة الاتجاه التدميري المادي والروحي الذي تسلكه الرأسمالية من خلال استعادة أعمال سابقة لعلماء وسياسيين من الموقع الثوري، ولنختم ما تم عرضه في المادتين السابقتين حول أفكار وطروحات ودعوة تولياتي للدفاع عن الحضارة، والذي كان قد استبق في دعوته تلك تطور المشكلة التي نواجهها اليوم بالمعنى العملي والمحقق، نحاول في هذه المادة وضع دعوة تولياتي في سياق المرحلة الراهنة من أجل إطلاق وتجديد الدعوة التولياتية اليوم كمهمة مركزية للحركة التقدمية للدفاع عن الحياة، وضمناً الحضارة التي أبدعتها البشرية، والدفاع عنها في وجه تدميرها كنتيجة الأزمة الرأسمالية التي ومن أجل الحفاظ على القائم وتأخير ولادة الجديد تدفع نحو البربرية والفناء.

في ملامح الجبهة- الحركة اليوم

إن الشيوعيين وإن كانو وقتها متصدرين، على لسان تولياتي، تلك الدعوة لقيام هذا حركة، فهم اليوم يحاولون الخروج من إحداثيات اللسان «الإيديولوجي» الذي يعتبره تولياتي آسراً لانفتاح الأفق الغني كما يعتبره. فدعوى تولياتي كان وقتها تجاه الجماهير الكاثوليكية (في إيطاليا) التي اعتبرها تولياتي على الرغم من الخلاف الإيديولوجي معها لها المصلحة المباشرة في قيام هكذا حركة. ولكن المسألة كما يقول تولياتي ليست إيديولوجية بحتة. واليوم كما نرى، فإن هكذا حركة وبمعزل عن دعوة الشيوعيين «الرسميين والتقليديين» إليها أم لا، تأخذ ملامحها في كل العالم. فحركة الدفاع عن الحياة كما سميناها مسبقاً تأخذ لها أشكالا مختلفة في كل بلد وحسب مستوى التطور السياسي- الثوري في وصله تلك الدول خلال القرن الماضي، والتي تأخذ اليوم شكل الدفاع عن الأطر المنظمة والحية في المجتمع، كالدولة والعائلة والتقاليد والثقافات المحلية، والمنجز العلمي، والعقل الإنساني نفسه، والتي تحمل ولخصوصيتها تلك طابعاً قومياً أو دينياً أو ثقافياً خاصاً، ولكنها في الجوهر حركة تقدمية مهما بدت عليه من ردة شكلية إلى الخلف حسب ما يعتبره أصحاب اللسان «الثوري الكلاسيكي» المتمسك بالثوابت «الإيديولوجية». وهذه الحركة واضحة أيضاً في مضمون الخطابات لرئيسي روسيا والصين، حول التهديد الحضاري وفناء البشرية، والتي صارت مكوناً أساسياً من الطرح النقيض في وجه التهديد الحضاري الحاصل.
إذاً، الحركة الدولية السياسية والنقابية والأهلية والاجتماعية اليوم، وبسبب من التهديد الشامل الذي يطال كل أشكال الحياة المادية والروحية، تتحرك في هذا الاتجاه الضروري الذي يجب أن يتم تطويره بما يتناسب مع جوهر هذا التهديد. فالرد على التهديد الحضاري لا يكفي أن يكون دفاعياً مهما كان شكله عسكرياً رادعاً أو ثقافياً وطنياً تقليدياً خاصاً أو هوّياتياً قومياً، بل يجب أن يطال أسس «الحضارة الرأسمالية» ونمط حياتها الاستهلاكي. فاستبدال هذا النمط وحده قادر على فتح طريق الوحدة الاجتماعية وتحصين العقل والشخصية الإنسانية التي هي اليوم عبر تفتيتها ومحوها يكمن التأسيس للبربرية وفيها تكمن الطاقة التفجيرية والتدميرية للإمبريالية. يتلاقى ذلك مع التطور التكنولوجي الذكي الحاصل وإمكانية الاستغناء عن ملايين وملايين من القوى العاملة البشرية (يمكن مراجعة المواد السابقة في قاسيون).
ومن هنا الحاح المهمة في تطوير البرنامج الملموس لهذا الانتقال باتجاه نمط الحياة التشاركي الجماعي في الإدارة وتقرير المصير الذي يتجاوز حدود الديمقراطية الشكلية الراهنة المهيمنة على حياة المليارات. وهذا يحتاج إلى أكثر من الاتصال العرضي كما قال تولياتي، بل إلى مأسسة هذا العمل الجبار، وتجميع كل القوى عالمياً حول هذا الشعار المتمحور حول التهديد الحضاري، وتفسير كل مكوناته المادية والروحية وأصلها وكيفية تجاوزها العملي. وخصوصاً من خلال الإطلالة بمنصات إعلامية وتنظيمية عالميّة توازي الهيمنة والحرب الإعلامية والفكرية الحاصلة، وبداية التأسيس لنماذج إنتاج جماعية في إدارتها يقوم عليها نمط الحياة الإبداعي الجديد وثقافته الحية القادرة على صيانة العقل والتعريف الإنساني للمجتمع. وما التحالفات الدولية والإقليمية اليوم إلا أشكال جنينية من هذا الطريق الضروري.
على أساس تعريف حضاري نقيض للحضارة المأزومة، على أن يكون هذا التعريف له طبيعة ممارسية نقيضة، وليس فقط ثقافية- إيديولوجية بديلة، على هذا الأساس وحده يمكن استكمال طريق الانتقال نحو الحرية الإنسانية وحماية الحضارية البشرية من بربرية محققة، ليس الدمار العسكري والبيولوجي والطبيعي إلا جانبها المباشر، بينما هناك الجانب الروحي- العقلي غير المباشر الذي لا يمكن تحصينه إلا عبر ذلك الانتقال المادي في نمط الحياة وتحويل علاقة الإنسان بالعالم، أي علاقته بنفسه وبالآخرين ضد الاقتصاد البضاعي ونمط الحياة الاستهلاكي المهيمن حالياً حتى في تلك الدول الصاعدة اليوم، وهنا مكمن خطر التفجير الدائم لدى الإمبريالية. وهذه الحركة لا حاجة بها أن تهز التماسك الداخلي للدولة المعنية، بل على العكس، هي عامل تماسك ووحدة كونها تطال تجميعاً للقوى «المتباينة» على أسس وجودية واسعة يمكن تلمس ضرورتها في كل عقل إنساني يطرح أزمته على كل المستويات ويعرفها أكثر من أي «تنظيم ثوري». وما نحتاجه فقط هو المنصة والبرنامج العملي والعلمي للتعبير عن هذه الأزمة وكيفية الإجابة عنها، أي التاسيس لنمط حياة إبداعي حي نقيض، فنحن اليوم فعلاً نجيب عن الاسئلة الجوهرية ضمن الرأسمالية كنمط حياة تغريبي- تشييئي، على أساس أنها وصلت إلى حدودها التاريخية.

حول تجديد الدعوة التولياتية

هذه كانت بعض الأفكار والطروحات المستعادة من تولياتي، التي تناقض اليوم أصحاب العقل الحامي «الثوري» الذي يعادي كل حركة حاصلة على المسرح الدولي بحجج «إيديولوجية» مختلفة ولا يرى الإمكانات الجبارة التي تحملها المرحلة. يبقي فقط أن يصبح هذا الاتجاه في الرؤية إلى تطور الأمور نظرياً وعملياً هو المهيمن والحاكم للممارسة القوى الحية، ومن هنا ضرورة إعادة بعث «دعوة» تولياتي التي أطلقها منذ حوالي نصف قرن من الزمن، وأعاد إطلاقها فيديل كاسترو بشكل آخر لاحقاً. الدعوة إلى تجذير حركة الدفاع عن الحضارة، وتفسير ما نقصد فيها. هذه هي مهمتنا المركزية أيضاً. ولا نبالغ إذا ما قلنا إن هذه الحركة الحضارية هي مضمون الثورة وشكلها في عصرها الراهن.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1123