نظرية ماركس في الاغتراب (2)
إنّ الاغتراب وفقاً لماركس ملازمٌ للملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وهذا يعني أنّ بلوغ هذه الملكية الخاصة ذروةَ تطوّرها في الرأسمالية يفتح الطريق التاريخي لتجاوز الاغتراب من خلال القضاء عليها. ويستنتج ماركس أنّ: «انعتاق المجتمع من الملكية الخاصة... من العبودية، يجد التعبير عنه في الشكل السياسي من انعتاق العمّال. وهذا ليس لأنّ القضية تقتصر على انعتاقهم وحدَهم، بل لأنّه في انعتاقهم يكون ضمناً الانعتاق الإنساني الشامل. وسبب هذا الشمول هو أنّ عبودية البشر برمّتها متضمَّنةٌ في علاقة العامل بالإنتاج، وليست جميعُ علاقات العبودية سوى تعديلات وعواقب لهذه العلاقة».
إذا تأمّلنا في العواقب المعاصرة لعلاقة الاغتراب، لوجدنا أنّها تشمل فيما تشمل الظواهر البارزة التالية:
1- العبودية للاستعمار بشكله التقليدي القديم، فاحتلال الأرض يتضمّن على الأقل استلابها بوصفها وسيلة إنتاج. 2- العبودية للاستعمار بأشكاله الأحدث، والذي يتجلّى اليوم في الرضوخ إلى الإذلال الشامل الذي تفرضه السياسات الاقتصادية النيوليبرالية المرتبطة بالإمبريالية، بما فيها الإذعان لتطبيق وصفات صندوق النقد والبنك الدوليَّين، مثل سياسات الخصخصة وتدمير القطّاع العام الإنتاجي، ورفع الدعم وتعميق الهوّة بين الأجور ومستوى المعيشة، مما يوسّع الفقر وكلّ الأمراض الاجتماعية ويزيد الأزمة تعقّداً. 3- ويدخل في عواقب الاغتراب أيضاً ضيق الحرّيات السياسية والديمقراطية، لأنه استلاب لأبسط حقوق المواطنة من جزء من المواطنين أغلبهم من الكادحين والفقراء، مما يزيد اغترابهم في وطنهم.
وهكذا فإنّ اشتقاق جميع علاقات العبودية المعاصِرة السياسية والاقتصادية-الاجتماعية والديمقراطية من جذر واحد (عبودية العامل للرأسمال)، يعني أنّ برنامج عملٍ اشتراكيّ معاصر، هو وحده القادر على السير في الطريق الصحيح للانعتاق السياسي للعمّال، إذ إنّ الرأسمالية هي الداء المعاصر الكبير، والاغتراب المعاصر وليدُها، ولا يمكن لاستمرارها أن ينجب أيّ انعتاق من الاغتراب بل تعميقاً له. وبالمقابل فإنّ الاشتراكية هي المفتاح لحلّ أزمة الاغتراب، لأنّ ممارسة العمّال للسلطة تعني توزيع الثروة لمصلحتهم، أي إعادة العمل المستَلَب إلى أصحابه، وكسر القيد الأساسي الذي تتفرع منه جميع تمظهرات الاغتراب الإنسانيّ المعاصِر.
الاغتراب السياسي
عندما لا يَسمع الناس خطاباً وممارسة سياسية صادقة تستجيب لمصالحهم وآمالهم المتعطّشة للخلاص والكرامة الإنسانية، بل يجري، بدلاً من ذلك، تجاهُلُ آلامهم ومعاناتهم ولا يتم طرح برنامج حقيقي لتحريرهم من الفقر والاستغلال والأزمات، بل على العكس يتمّ تبنّي سياسات لمصلحة الأقلية الطبقية النهّابة والفاسدة، فيحقّ عندئذٍ لهؤلاء الناس أن يفقدوا الثقة بالأطر السياسية القائمة التي تحمل هذا النوع من السلوك.
ولا شكّ أنه في مرحلة التراجع العام للحركة الشعبية والثورية العالمية، سادت فراغات وعيوب كبيرة أدّت إلى غياب التمثيل السياسي الصحيح البديل القادر فعلاً وقولاً على تجسيد حزمة متكاملة من مصالح الطبقة العاملة وسائر الكادحين من النواحي الاقتصادية-الاجتماعية والوطنية والديمقراطية. والكلام هنا لا يقتصر على الأحزاب الشيوعية في مرحلة التراجع العام للحركة الشيوعية العالمية والمحلّية، بل وعلى كلّ ألوان الطيف السياسي، لدرجة أوصلت الناس إلى حد فقدان الثقة بالسياسة والعمل السياسي بحد ذاته، وبجميع الأحزاب السياسية، رغم استمرار الوجود الموضوعي لهذه الأخيرة كهياكل وبنى، وأفراد، ولكنها –وهنا نقطة الربط مع موضوعنا- تحوّلت إلى بنى سياسية واقعة في اغتراب متزايدٍ عن جماهيرها، وحتى عن نفسها، أي عن دورها الوظيفي. ولطالما أدى ذلك الفراغ إلى صبّ المياه في طاحونة الطبقات المستغِلّة لأنه أدى إلى تسليمها سلاحاً في صراعها الأيديولوجي والعملي لتثبيت موقعها الاستغلالي والإمعان فيه، وإبقاء الكادحين في موقعهم كمنهوبين وبدرجاتٍ متزايدة، وبالتالي استمرار حالة الاغتراب المضادّة للإنسانية برمّتها والتي ترتبط بحدّ ذاتها بالانفجارات والأزمات الاجتماعية والسياسية.
ومن هنا تبرز أهمّية أن تتمتع طليعة الكادحين الثورية الواعية في المجتمع القدرة على أنْ تجسّد، من خلال رؤيتها وبرنامجها السياسي وممارستها وخطابها، مصلحة الطبقة العاملة وجماهير الكادحين الواسعة، وأن تصوغ عن وعيٍ المهمّات العملية التي يجب إنجازها على طريق تحريرهم وانعتاقهم من حالة الاغتراب التي يعيشونها.
التحرير الإنسانيّ للعمل
بحسب ماركس فإنّ التغيير الثوري القادم للعمل سوف يحوّله في نظر أفراد المجتمع، من عبء إلى «حاجة أولية حيوية». أي أنّ العمل، وبلغة موضوعنا، سوف يستكمل انعتاقه من كونه عملاً مستلَباً فيصبح عملاً إنسانياً. وهكذا فإنّ معركة النضال لتحقيق الشروط الأساسية لتجاوز الاغتراب على نحو ناجز، سوف تنتقل إلى مستوى جديد أثناء بناء الاشتراكية، ولكنها حتى في المرحلة الاشتراكية (بوصفها انتقاليّةً بين تشكيلتَين) ستظل بحاجة إلى شروط أساسية للانعتاق الكامل من الاغتراب، والتي ستعني شروط الانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية، وعلى رأس هذه الشروط، كما شدّد عليها جوزيف ستالين (انظر كتاب «الكلمة الآن للرفيق ستالين»، دار الطليعة الجديدة، دمشق، ص233):
1 – تأمين النمو المطَّرد لكامل الإنتاج الاجتماعي، وبالدرجة الأولى نمو إنتاج وسائل الإنتاج.
2 – رفع مستوى الملكية العامة لوسائل الإنتاج وتوسيعها على حساب تقليص الملكية الخاصة لها. واعتماد أسلوب تبادل المنتوجات بشكل تدريجي بدلاً من التبادل البضاعي كي تستطيع السلطة المركزية أو أي مركز اجتماعي-اقتصادي آخر الإحاطة بكل منتوجات الإنتاج الاجتماعي لمصلحة المجتمع.
3 – تحقيق مستوى من النمو الثقافي للمجتمع، يؤمّن لكل أفراده إمكانية التطوير الشامل لقدراتهم الجسمانية والفكرية... حتى يتمكَّنوا بحرّية من اختيار المهنة التي تناسبهم، لا أنْ يبقوا مُقيَّدين بمهنة واحدة بحكم تقسيم العمل القائم.
لقد أعطانا ماركس في «تعليقات على جيمس ميل»، الذي كتبه في النصف الأول من عام 1844 تصوّراً عن النشاط الإنساني في الشيوعية كتشكيلة اقتصادية اجتماعية لا طبقيّة، حيث يصل الانعتاق من الاغتراب إلى اكتماله:
«لنفترض بأننا نفَّذنا الإنتاج ككائنات إنسانية. كلّ منّا سيكون قد حقّق ذاتَه وحقّق ذاتَ الشخص الآخَر بطريقتين: 1- في إنتاجي سأكون قد جسّدْتُ فرديّتي تجسيداً موضوعياً، أكون قد جسّدتُ الطابَع الخاصّ لي كفرد، وبالتالي أكون قد تمتّعت ليس فقط بالتجلّي الفردي لحياتي في أثناء النشاط، بل وكذلك عندما أنظر إلى الشيء، سوف أشعر بالسعادة الفردية في معرفة أنّ شخصيّتي لها وجودٌ موضوعيّ؛ أنّها مرئية للحواس وأنّها بالتالي قوّةٌ دون أدنى شك. 2- في تمتّعك أنت بمنتوجي أنا، أو استعمالك لمنتوجي، أكون أنا قد حصلت على التمتّع المباشر في كلّ من كوني أعي أنّني قد أشبعتُ حاجة إنسانيّة بعملي، أيْ بأنّني قد جسَّدتُ طبيعة الإنسان الجوهرية تجسيداً موضوعيّاً، وبأنني بذلك قد خَلقتُ شيئاً يستجيب لحاجة طبيعة الإنسان الجوهرية لدى شخص آخر... إنّ منتوجاتنا سوف تكون بذلك عبارةً عن مرايا كثيرة نرى فيها انعكاس طبيعتنا الجوهرية».
وبالنتيجة فإنّ الاشتراكية (كمرحلة انتقالية ثمّ كاشتراكية ناجزة - شيوعية) هي الحلّ لأزمة الاغتراب، كما كتب ماركس في مخطوطاته الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 (المخطوط الثالث، الفصل الثاني):
«الشيوعية هي الإزاحة الإيجابية للملكية الخاصة كاستلابٍ ذاتيّ للإنسان، وبالتالي هي الامتلاك الصحيح للجوهر الإنساني... وتحدث في إطار غِنى مراحل التطور السابقة برمّتها... إنّها الحلّ الحقيقي للصّراع بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان... بين التجسُّد الموضوعي وإثبات الذات، بين الحرّية والضرورة، بين الفرد والنوع. إنّها الحلّ لأُحجية التاريخ وهي تَعْلَم عِلم اليقين بأنّها هي الحلّ».
لقراءة الجزء الأول من المقال:( نظرية ماركس في الاغتراب (1) )
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1177