جمهور نفسيّ أم واع: بين لوبون والحاضر
في أواخر القرن التاسع عشر نشر غوستاف لوبون كتاب «سيكولوجية الجماهير» كتفسير لأحداث الثورة الفرنسية. اعتُبِرَ لوبون من مؤسسي علم النفس الاجتماعي بحسب مترجم ومقدم الطبعة العربية الصادرة عن دار الساقي، وهذا استناداً إلى الشهرة الواسعة التي لاقاها بعد صدور الكتاب.
الجماهير «ساذجة وغير واعية»
يعرّف لوبون الجماهير بتلك التي تلتقي على فكرة أو قضية محددة فتصبح «جمهوراً نفسيّاً» تتفاعل وتفكر وتنقاد بالطريقة نفسها. ينصهر أفرادها في روح مشتركة تقضي على التمايز الفردي. فانخراط الأفراد في الجماعات المتمحورة حول قضية معينة يقضي على وعي الفرد، ليصبح غير واعٍ، سلوكه متشابه مع الجمهور ومُنقاد مِمَّن يملك القوة. لا يعتبر لوبون أنّ للجماهير فكرها ووعيها الخاص بل هي لاواعية وساذجة ومنوَّمة مغناطيسياً (بالمعنى الحرفي للعبارة) من قبل من يملك القوة. ويضيف لوبون في كتابه، إن الجماهير محافظة (أيْ رجعية)، فهي ستعود دوماً إلى الماضي الذي تفضّله عن الحاضر لأنه أقوى. ولأن الجماهير غير واعية وساذجة، أيْ إنّها لا تستطيع التفكير، فهي بحاجة إلى قائد قوي. فبحسب لوبون، يميل الإنسان غريزياً إلى وضع نفسه تحت من هو أقوى. لهذا فمن السهل على القويّ اقتياد الجماهير إلى حيث يشاء، إلى مذبحة أو دفاع بطولي. ولأنّ الجماهير سهلة الانقياد وسريعة الانفعال فإنّ الطريقة الأفضل للسيطرة عليها هي الدعاية والشعارات العاطفية والخيال. ولوبون من مؤيدي التسلسل الهرمي الاجتماعي، يعتبر أنّ للأقوى مركزاً اجتماعيّاً أرقى. وهذا ما أوهم به الفرنسيون، وغيرهم من الإمبراطوريات الأوروبية أنفسَهم تبريراً لسيطرتهم واستعمارهم وحروبهم المستمرة. فحاملو هذه الفكرة مثل لوبون استندوا إلى نظرية التطور لداروين في تبرير الهرمية الاجتماعية، وطبعاً هذا تفسير خاطئ، داروين لم يعنِ أنّ الغلبة للأقوى بل عنى أنّ الغلبة لمن يستطيع التأقلم مع الظروف الجديدة/المتغيرة. ولكنهم برّروا تصرّفاتهم على أنها نتيجة تطوِّرٍ جينيٍّ في الوعي وَضعَهُم في مراكزَ عُليا اجتماعياً. هو التبرير نفسه الذي وضعه الأوروبيّون عندما قاموا باستعمار آسيا وإفريقيا وأمريكا، هم يعتقدون أنهم أرقى في الوعي وأنهم حكماً وإلى الأبد في هذا المكان.
كان لوبون أكثر ليونة من هذا التعبير في أنه لم يعتبر أنّ لشعبٍ محدَّد أفضلية أبديّة بل اعتبر أنه إذا (أو عندما) تقوم الشعوب «المتخلّفة» (العربية والهندية بحسب دراساته) بالخطوات الضرورية للتَّمَثُّل بالأوروبيّين، يمكنها أن تصبح شعوباً أرقى. أيْ إذا اجتهدت هذه الشعوب ستترقّى.
لخّصَ لوبون فكر الاستعمار في كتاب، وأوحى للقارئ في كل المستويات الهرمية الاجتماعية بأن: الغلبة الاجتماعية والسياسية والإدراكية تأتي طبيعياً (وراثياً) للبعض دون البعض الآخر، وأنه إذا اجتهد المرء وتَمَثَّلَ بالقوي يمكن له الترقّي، وأنّه على القوي المحافظة على موقعه وإلا فسيخسره لمن يجتهد في التسلّق، وأنّ الجماهير عبارة عن أداة بيد من يستطيع تنويمها وقيادتها. أقلّ ما يمكن أنْ يقال عن لوبون إنّه عنصريّ متطرِّف ومتغطرس. وهناك العديد من المحطات التاريخية التي أثبتت عدم صوابيّته. حتى لو أخذنا مَثَلَ انتشار النازية والفاشية، فهي بالطبع لم تكن بسُخف انقيادِ الأفراد إلى جماعات وفقدانهم وعيهم.
يتعاطى هذا المنطق مع البشر على أنّهم ليسو بشراً، على أنهم متشابهون مع الحيوانات. ولهذا وَجدوا في داروين مخرجهم، لأنهم لم يستطيعوا أنْ يبلوروا تفسيراً للعقل البشري والنفس البشرية. وخطورته هو في أنّه يمكن أنْ يُقنع الناس بأفضلية تفرُّدهم وانعزالهم عن المجتمع لترقّيهم أو لمحافظتهم على موقعهم الراقي. وهذه نظرة طبقية بامتياز ضدّ جميع الفئات المقهورة.
صدى لوبون
يمكن أنْ نرى صدى للفكر والأسلوب الذي عرضه لوبون في كتابه عند معظم القوى العالمية اليوم. خطابات عاطفية جيّاشة، غير واقعية، كاذبة، لا تحترم الجماهير بل تقدّم لهم ما يثير مشاعرهم وانفعالهم. خذ مثلاً التسابق الانتخابي بين ترامب وبايدن والاستعراضات الخطابية والتي تقوم على استغلال مصادر القلق عند جماهيرهم. ما لا تفهمه هذه القوى أنّ المحرك الأساسي للأفراد وللجماهير ليس الشعور بالدونية المتوارَثة ولا فقدانها وعيها عند تجمّعها، بل ضرورة الانتماء والوجود ضمن مجموعة. الانتماء يمثل أماناً جسديّاً ونفسيّاً عند البشر، والوجود ضمن جماعة هو إحدى غرائزنا للبقاء.
الضعف في طرح سيكولوجيا حقيقية للجماهير هو عند القوى البديلة، التي بمعظمها تستخدم الأسلوب الخطابي الرنّان نفسه، والتي تتعاطى مع الجماهير بعدم احترام، تقوم بشرح وضعها عند كل فرصة، مثلما عندما يقوم بعض سائقي سيارات الأجرة بمجادلة الراكب بشأن مكان سكنه، حيث يعتبر السائق أنّه الخبير وأنّ الراكب حتى لو كان يتوجّه إلى مكان سكنه لا يدرك أينَ هذا المكان بالتحديد. فمعظم القوى التي يجب أن تكون في موقع البديل لم تخرج من هذا الأسلوب من التعاطي مع الجماهير، حتى لو أنّ الجماهير تثبت مرة بعد الأخرى أنها قادرة على الاستيعاب والإدراك وحتى التنظُّم. وأنها في بعض الأحيان لا تحتاج إلى من يتحدّث باسمها. أما عن تفصيل عدم صوابية لوبون في النقاط التي عرَضَها فهو لمقالٍ لاحق.
لقراءة الجزء الثاني من المقال: جمهور نفسي أم واعٍ: بين لوبون والحاضر (2)
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1167