جمهور نفسي أم واعٍ: بين لوبون والحاضر (2)
قابل الصورة التي قدمها لوبون في كتاب سيكولوجيا الجماهير معترضون، وهم الذين اعتبروا أن الطرح خارج التاريخ، والذين شدّدوا على أهمية فهم الجماهير من خلال الواقع الاجتماعي. ومع هذا، لا يزال الكتاب والطرح يتمتعان بشهرة كبيرة، إما لمن يستخدم الكتاب لنشر فكرة لوبون أو لمن لم يستطع «فك شيفرة» وعي الجماهير ومن يقودها، أما من لم يستطع قيادة الجماهير فعزا المشكلة إلى الجماهير غير الواعية. وكتاب لوبون مهم لفهم الأحداث الحالية، وتفسير الوحشية التي يقوم بها الاحتلال الصهيوني والمدافعون عنه، ونركز على فكرتين، الفردية والوجود والانتماء.
الفردية
جوهر الفكر الرأسمالي هو تعظيم الفردي بمقابل تقزيم الجماعي. وهو منعكس في كافة تفاصيل الحياة، مثلاً الحلم الأمريكي والقدرة الفردية على الوصول إلى الثراء المشابه لمنطق لوبون «إن اجتهد المتخلفون يمكنهم صعود درج السلم الاجتماعي». وربط أي مسألة أو حدث أو تقدم بفرد لا بجماعة ولا بتسلسل تاريخي. فدائماً عبر التاريخ (الحديث على الأقل) ينسب الفعل لشخص واحد من دون ذكر العوامل والأشخاص التي أوصلته إلى هذه النتيجة أو إلى «القمة». وهي شبيهة بفكرة الزعيم، التي روج لها لوبون في كتاباته، والزعماء الذين مروا عبر التاريخ. ومشابهة للنغمة الأخيرة أيضاً والتي تعتبر أن رئيس الوزراء (الإسرائيلي) يمتلك بمفرده قرار وقف الحرب. خدمت الفردية الرأسمالية سنين طوالاً، وتخدمها الآن للخروج من الأزمة التي عمقها طوفان الأقصى. فنسب الوضع الحالي إلى شخص واحد وسلخه عن تطوره وتسلسله التاريخي يعطي الرأسمالية المزيد من الوقت للمناورة ولإيجاد حلول أخرى. ويحمّل شخصاً واحداً مسؤولية الاحتلال الصهيوني والحرب والإبادة، أي يعزل المجموعة عن الفعل، ما يعطيها شرعية للقيام لاحقاً بأفعال مشابهة. طبعاً يقع أغلب من يرفض الوحشية والحرب في الخطأ نفسه، منهم من ينغّم مع الغرب ومنهم من يستخدم منطق الرأسمالية. ليس فقط من خلال ترديد النغمة ذاتها عمّن يتحمل مسؤولية القرار، بل بتعظيم أفراد أيضاً (أغلبهم صحافيين) وتعظيم معاناتهم مقارنة بمعاناة الغزاويين. لا نقلل من أهمية الأفراد أو ما تحمّلوه أو ما عاشوه، بل نسلط الضوء على فعل التعظيم والتقزيم. وعلى تصوير الموضوع على أنه حالة خاصة بينما هو حالة عامة. ولا يمكن غض النظر عن أن أغلب من تم تعظيمهم تم تسهيل خروجهم من غزة بوساطة الأنظمة المطبِّعة. وهي النغمة ذاتها التي تذكرنا أن أبناء قيادات المقاومة يستشهدون أيضاً، يردد هؤلاء النغمة بينما يحاجّون أن المقاومة ولدت من رحم الشعب. باللغة العامية يسمى هذا انفصاماً، بلغة علم النفس هو أشبه باضطراب الهوية التفارقي أو اضطراب تعدد الشخصيات، وكأن العبارتين تخرجان من شخصيتين مختلفتين. لأنه إذا كانت المقاومة قد خرجت من رحم الشعب فلا معنى لجملة «أبناء قيادات المقاومة يستشهدون أيضاً» لكونهم من الشعب عينه.
الوجود والانتماء
الانتماء عند البشر أساسي للشعور بالأمان، لا يمكننا العيش خارج أطر أو جماعات. ولأن الرأسمالية مدركة لهذا قزمت الانتماء من جماعي إلى فردي، وحولته إلى حالة خاصة وفردية، والأهم أنها جعلته في تنافس مع غيره في منطق نحن والغير الذي تحدثنا عنه سابقاً. ولأن الانتماء مرتبط بالوجود، وتعريفه، أي تعريف الجماعة التي ننتمي إليها، مرتبط بتعريفنا. لهذا يكون هنالك تماهٍ بين أفراد الجماعة الواحدة، ليس لأنهم اضمحلوا في الجماعة بل لأنها تعبر عن وجودهم. وهذا ما لم يستطع لوبون رؤيته، أو من الممكن أنه غض النظر عنه لكي يبرر أفكاره. هذا التماهي هو مشابه في المقلب المواجه «للجماهير»، السلطة أو الطبقة الحاكمة متماهية في أقوالها وأفعالها. وكلّما قلّت قيمة الفرد في الانتماء الجماعي (أو في حال عدم وجود انتماء جماعي) تعاظم الانتماء الفردي وتحول إلى تعصب وتطرف. لأن الانتماء الفردي غير مرضٍ ويقوّض الوجود. مثلاً تختلف نظريات علم النفس في تعريفها عمّا هو معنى الحياة، ولكنها تتفق على أنه مرتبط بما هو أسمى من الفرد. وكلّما تعاظم التشبث بهدف أكبر من الحدود الفردية كان أسهل تعريفاً أو إيجاداً لمعنى الحياة. ولأن الوجود مأزوم في الانتماء الفردي، يتحول إلى تطرف. ولأن الانتماء الفردي محدود فهو مأزوم، يستطيع العيش إن كان في حالة صراع مع الانتماءات الفردية الأخرى فقط. لهذا نجد تشجيعاً لدرجة التعصب للفرق الرياضية، لأن تشجيعها يكون عندما نقارنها مع غيرها فقط، ولأن فوزها أو تعريفها أو هويتها تعبر عن هوية أو تعريف مشجعيها.
كيف ينعكس هذا على ما يحصل اليوم؟
يشاهد العالم أجمع وحشية وتطرف الاحتلال الصهيوني، لدرجة لا يمكن للعقل تصورها. شاهدنا هذه الوحشية في السجون الأمريكية في العراق، والفرق أن الاحتلال الصهيوني يقوم بهذه الأفعال مباشرة على الهواء غير آبه بأي كان. هو من الناحية السياسية يعلم جيداً أن وجوده مرتبط بالانتماء الفردي للصهيونية، لذلك يعلم أن حياته مرتبطة بنسبة تجييش مناصريه. وهو يعلم أيضاً أنه جزء من محور أكبر من الكيان «الإسرائيلي» ومصالحه تتقاطع مع مصالح الغرب الذي لا يمكن أن يتخلى عنه. أما من الناحية النفسية فإن الاحتلال الصهيوني قائم على أفكار لوبون، أفضلية عرقية متوارثة وأفضلية إدراكية متوارثة، فحكماً يحق له التمتع بامتيازات، ويحق له أن يقرر كيف يدير «الجماهير» غير الواعية والمتوحشة. ولأن هذا الانتماء الفردي قائم على الغطرسة والكره، فهو حتماً متعصب ومتطرف. هو أجيال تربت على فكرة الأفضلية والأحقية، والتي لا يمكن لها الوجود إلا ضمن تنافس مع انتماءات أخرى. لهذا هي في صراع دائم مع غيرها. ولهذا نرى تطرفاً عالي المستوى في التعاطي مع الأمور، لأن الوجود والانتماء في خطر. ولأن الجهة المقابلة (أي الفلسطينية) أظهرت مستوىً عالياً من الإنسانية والتقبل وهذا ما زعزع فكرة الانتماء الفردي الصهيوني. ملاحظة أخيرة: إن الرأسمالية بتقزيمها للانتماء جردت الإنسان من قيمته ووجوده، وقادته إلى التطرف والتعصب. ففي حالة الاحتلال الصهيوني، قام بسحب صفة الإنسانية عن الغير لكي يبرر أفعاله، وحين وظّفته الرأسمالية في هذا الدور قامت بسحب صفة الإنسانية عنه. لا يجب رفض منطق لوبون والصهاينة ليس من باب ما أدت إليه الأمور فقط، بل من باب رفض تجريد الإنسانية، وقولبة الإنسان في أطر صغيرة تضطره إلى نزاع مستمر مع غيره.
لقراءة الجزء الأول من المقال : جمهور نفسيّ أم واع: بين لوبون والحاضر
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1170