مجدداً عن «التوتر» حول الذكاء الاصطناعي كعارض للأزمة وكرأس جبل الجليد

مجدداً عن «التوتر» حول الذكاء الاصطناعي كعارض للأزمة وكرأس جبل الجليد

على الرغم من أن مؤشرات «خطر وإشكالية» الذكاء الاصطناعي ليست بجديدة، هناك الكثير من «الصراخ» العلني في المرحلة الحالية حول الذكاء الاصطناعي، حيث إنه وبشكل شبه يومي هناك خبر من هنا أو تحذير من هناك حول الخطر الوجودي للذكاء الاصطناعي على البشرية، خصوصاً مع بداية اقتراحات عملية لتشكيل هيئات ناظمة حكومية، لا بل عالمية الطابع. وهذا «التوتر» لا يخرج عن «التوتر» العام الذي يطبع المرحلة، الناتج عن القلق الضمني المتعاظم ضمن النظام الرأسمالي.

مؤشرات عالمية

في الأسبوع الماضي تحديداً صدرت عدة تصريحات وإعلانات لها علاقة بموضوع الذكاء الاصطناعي، وتحديداً حول قوننة وضبط الميدان على المستوى الحكومي والدولي. مثلاً، وحسب صحيفة «تايمز» البريطانية سيناقش رئيس الوزراء البريطاني مع الرئيس الأمريكي جو بايدن سبل التعاون لخلق «حواجز وقائية» أمام استخدام الذكاء الاصناعي، ومن إحدى الأفكار قيد النظر، هي إنشاء هيئة عالمية في لندن لمراقبة الذكاء الاصطناعي، على غرار نموذج الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وهنا تجدر الإشارة أنه بحسب وزارة الدفاع البريطانية، أجرى تحالف دفاعي ثلاثي الأطراف اختبارات ذات الصلة بالذكاء الاصطناعي، شكلته أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. التصريح الآخر جاء على لسان رجل الأعمال الأمريكي إيلون ماسك (مالك منصة توتير والمدير التنفيذي لشركة تيسلا)، حيث إنه وخلال رحلته الأخيرة إلى الصين أجرى لقاءات مع المسؤولين الصينيين وقال: «الشيء الجدير بالذكر أنه في رحلتي الأخيرة إلى الصين أجريت بعض المناقشات المثمرة للغاية مع المسؤولين الصينيين حول مخاطر الذكاء الصناعي، والحاجة إلى بعض الرقابة أو التنظيم». وأضاف «أفهم من تلك المحادثات أن الصين ستبدأ تنظيم الذكاء الصناعي في البلاد» في إطار خطط لإطلاق لوائح جديدة بشأن الذكاء الصناعي. وكان ماسك قد التقى عدداً من المسؤولين منهم وزيري الخارجية والتجارة الصينيين. من الجانب الروسي، كان نواب في مجلس الدوما (البرلمان) قد اقترحوا الشهر الماضي تصنيف المضمون المصنوع من قبل منصات إنتاج المحتوى كالـ ChatGPT الذي شكل ضجة مؤخراً مع ما يمكن أن يقدمه من محتوى، ليس فقط الحقيقي بل المزيف أيضاً. وجاء التصريح على لسان أندريه سفينتسوف، نائب رئيس لجنة سياسة المعلومات في مجلس الدوما الروسي. كما أعرب السيناتور، ألكسندر شندريوك- تشيدكوف، عن رأي مماثل، مضيفاً أن مبادرات تصنيف المضمون المصنوع بمساعدة الذكاء الاصطناعي هي السبيل الوحيد إلى مكافحة نشر المعلومات المزيّفة. ولم توضح هذه الاقتراحات في إطار شيطنة الذكاء الاصطناعي، بل على العكس، هي محاولة لدمجه ضمن الإطار العام للصناعات وميادين النشاط المختلفة. إضافة إلى الجهات الحكومية، حذرت مجموعة من كبار الخبراء والمديرين التنفيذيين في بيان مشترك من أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تشكل «خطر انقراض» على البشرية. فبحسب بيان نشره موقع المؤسسة غير الربحية Center for AI Safety، فإن أكثر من 350 شخصية بارزة في مجال الذكاء الاصطناعي، بينهم رئيس شركة OpenAI، سام ألتمان، المنتجة لـ ChatGPT، ومدراء تنفيذيون وأساتذة وباحثون من شركات كـ Microsoft, Google, Google DeepMind, Anthropic، وجامعة تسينخوا ومعهد الأتمتة التابع للأكيديمية الصينية للعلوم، ومعهد بكين للعلوم الإلكترونية والتكنولوجيا، وجامعات يو سي بركلي، وماساتشوستس، وهارفرد، وستانفورد، وتورونتو، وكامبردج، وأكسفورد، والمعهد الكوري للعلوم والتكنولوجيا، والجمعية الروسية للذكاء الاصطناعي، وبعض الشخصيات السياسية كرؤساء جمهورية سابقون، وغيرهم الكثير، يعتبرون الذكاء الاصطناعي تهديداً وجودياً للبشرية. وقال الخبراء في البيان المؤلف من جملة واحدة: «يجب أن يكون التخفيف من خطر الانقراض من جرّاء الذكاء الاصطناعي أولوية عالمية إلى جانب المخاطر المجتمعية الأخرى مثل الأوبئة والحرب النووية».

في المعنى السياسي للإعلانات

مجدداً، إن «الحملة» حول الذكاء الاصطناعي لها عدة أبعاد وجوانب. البعد الأول، ينبع من التحديات الواقعية التي يفرضها تطور التكنولوجيا المسماة ذكية واتجاهات الحلول الممكنة ضمن النظام الرأسمالي. فالعقل المحافظ يتعاطى مع التحديات من موقع الحفاظ على النظام، ومن هنا الهلع الموجود. فالتطوير المستمر للآلة والأنظمة عالية التعقيد، تعني بشكل أساس تهديد القاعدة الاجتماعية والسياسية لاستمرارية المجتمع الطبقي في صيغته الرأسمالية كنهب لفائض القيمة وتقليص شبه مطلق للطبقة العاملة بمختلف مستويات عملها الذهني والجسدي، وذلك بالمدى المنظور والقريب حتى، خصوصاً في ظل التوظيف السريع لهذه المنتجات على مستوى واسع. وهذا ولا شك يأتي في سياق التحضير للنسخة البربرية من المجتمع «ما بعد الرأسمالي». وهناك بالمقابل العقل الذي يطرح توظيف الطاقات الكبيرة للتكنولوجيا المتطورة والمسماة بالذكية، من أجل حل القضايا العامة للبشرية، والأهم ما تسمح به من تحرير القوى العاملة الضرورية، وإطلاق الطاقات البشرية وتوظيفها في أنشطة أعلى إنتاجية وإبداعية بالمعنى المستقبلي للبشرية، وتحديداً العلوم والتفكير المجرد بمختلف أشكاله، الذي هو مكبوح اليوم، لا بل يخضع للتدمير الممنهج في سياق الحرب على العقل، وأزمته الضمنية على قاعدة الاغتراب والتفكك الداخلي لهذا العقل. وهذا الاتجاه كان قد عبر عنه من سنوات مدير البنك المركزي البريطاني حيث قال إن تطور الذكاء الاصطناعي سيشكل قاعدة قوية لانتعاش الماركسية!
إذاً هناك اتجاهان، الأول هو الكارثة، والثاني هو الفرصة، كما في كل أزمة. ولا يخفى أن التهويل (عن دراية أو غير دراية) من خطر الذكاء الاصطناعي بمعنى شيطنته، يخدم اتجاه العقل التدميري، أو بالحد الأدنى الاتجاه المحافظ. فالشيطنة كما في كل مناسبة وبمعزل عن الطرف الذي تتم شيطنته، يخدم إزاحة الانتباه عن الأسباب الحقيقية للأزمة، ألا وهي النظام الرأسمالي نفسه. فالذكاء الاصطناعي ليس إلا الأداة التي يجري توظيفها. وبالتالي عندما يجري الحديث عن الخطر، يتم استبعاد الطرف الذي يوظف، وفي أي سياق اجتماعي تاريخي يجري هذا التوظيف. فالخطر الممكن من الذكاء الاصطناعي كما القنبلة النووية هو أولاً بالطرف الذي يملكها ودواعي استخدامها (للردع أو التدمير الشامل)، وثانياً، هناك حدود النظام التي يجري استبعاد النقاش فيها. فالرأسمالية تختنق اليوم بالتطور المذكور للتكنولوجيا، ولا يمكن لها أن توظف كل إمكانات التكنولوجيا الحالية وإلا فهي تناقض اسسها بالذات، إلا إذا دفعت باتجاه «البربرية» وتحديداً القضاء على قسم كبير من القوى المنتجة البشرية التي عوضتها إلى حد ما القوى المنتجة التكنولوجية، وتحويل قواعد النهب والطفيلية باتجاه مجتمع طفيلي «رشيق» يتخذ صفة البقاء للصفوة بالمعنى البيولوجي حتى، وفي خدمتها جيش «العمال التكنولوجي من آلات وأنظمة معقدة».
ولهذا فإن «الضجيج» الذي بدأ بالتصاعد مؤخراً ليس إلا عارضاً من عوارض الأزمة العامة للرأسمالية، وليس إلا البداية، وسيبدأ التمايز في المواقف تجاه الذكاء الاصطناعي أكثر فأكثر مع كل تقدم وتبلور للنقاش، ولكن والأهم، لتطور الصراع العالمي.
وبالتالي فالاقتراحات «القانونية» المذكورة مؤخراً ليست إلا التعبير البسيط عن حجم التحدي السياسي والاقتصادي-الاجتماعي الطبقي لتطور التكنولوجيا «الذكية». وسيتصاعد التوتر حول هذا الملف أكثر فأكثر، هذا إذا ما تجاهلنا الجانب الفلسفي المباشر لهذا التطور، والذي يهدد الموقف المثالي في الفلسفة والعلم، حيث إن كل تطور في تفسير وإنتاج آليات الذكاء الطبيعية هو معركة شرسة ضد المثالية. وهكذا تكتمل حلقة الأزمة هنا، فكما قال فيغوتسكي: «لا يمكن إنتاج علم الإنسان، ولا يمكن القبض على حقيقة الشخصية الإنسانية ولا القبض على الشخصية نفسها وواقعها الملموس (أي تملك شروط هذا الواقع) في المجتمع القديم، بل سيحصل ذلك في المجتمع الجديد وحده». وهنا مكمن «الرعب» الحقيقي لقوى العالم القديم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1126
آخر تعديل على الإثنين, 19 حزيران/يونيو 2023 16:38