عندما دخلت الأزمة بيوتنا

عندما دخلت الأزمة بيوتنا

تكمن المسألة الأساسية في عدم فهم وإدراك الكثير من الناس لحقيقة الأزمة وأسبابها وما أنتجه انفجارها لاحقاً ووصولها إلى هذا الحد غير المسبوق، في طريقة التفكير التي يتناول بها هؤلاء المشكلة وطرق معالجتها، باعتمادهم النظرة الجزئية للتحليل ومواجهة المشكلات الجزئية اليومية بعيداً عن الوعي بأطرها الكلية. حيث باتت هذه الطرائق من التفكير تمثل أزمة فوق الأزمات وعاملاً من عوامل إنتاج المشكلات. فيكون مثلاً السياسي منقطع الصلة عن الاقتصادي الاجتماعي، وأيضاً الثقافي منقطع عن الاقتصادي والسياسي.. إلخ. ولذلك تتوه التحليلات في الجزئيات الصغيرة بعيداً عن فهم ومعرفة أبعاد الظاهرة المتنوعة والمتعددة.

من هنا تأتي أهمية ربط الانتماء بجذوره الثقافية وسياقاته الاجتماعية والاقتصادية والفكرية وحتى السياسية منها. إن فكرة الانتماء ليست بسيطة، بل هي مثل أي ظاهرة اجتماعية أخرى معقدة وغنية، ولذلك يعتمد فهمها على دراسة كافة أبعادها وجوانبها، فالانتماء له جانبان داخلي ينطلق من الهوية وتحقيق الذات، وخارجي يرتبط بالمصالح المتبادلة والمنافع المحصلة بين الإنسان المنتمي ودائرة انتمائه. تتعدد دوائر انتماء الفرد وتتعقد وتتداخل وتتشابك وتتقاطع وتترابط، فبعض الانتماءات تولد مع الفرد ولا خيار له في استمرارها كالعائلة والوطن واللغة.. إلخ. وبعضها الآخر يختاره الإنسان بعد نضوجه واكتمال وعيه مثال التوجه السياسي والأيديولوجي.. إلخ. ودوائر الانتماء متنوعة منها المحلي، والإقليمي والإنساني والنوعي.. إلخ. وما يميزها أنها دوائر متحاضنة من جهة، ومتناقضة من جهة أخرى. وهذا ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى حالة من الخلط بينها، فمثلاً يجري الخلط بين النظام السياسي والوطن، والخلط بين مفهوم العالمية وواقع الهيمنة الاستعمارية، والخلط بين الهيمنة السياسية والتطور الحضاري، وغيرها وغالباً ما يكون ذلك ناتجاً عن اتساع مساحات الاغتراب والانفصال المعنوي عن دوائر الانتماء الحيوية للإنسان.

لم نكن بخير

إن الإحساس بالأمن الوجودي هو منطلق الثقة بالنفس. يؤكد د.مصطفى حجازي في كتابه «التخلف الاجتماعي- مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» أن الانسان المقهور «يعيش في عالم من العنف المفروض، عنف يأتي من الطبيعة وغوائلها التي لا يستطيع لها ردعاً والتي تشكل تهديداً فعلياً لقوته وأمنه وصحته» ويسرد جملة من الأخطار الطبيعية كالجفاف والفيضانات والحرائق والأمراض والأوبئة والحروب والآفات الزراعية .. إلخ. ويتابع «أن هذا العنف يجعله يعيش في حالة الضرورة، في حالة فقدان متفاوت للسيطرة على مصيره، إنه اعتباط الطبيعة عندما تقسو دون أن يجد وسيلة لحماية ذاته للشعور بالأمن إزاء ما تشكله من تهديد، إنه يفتقر إلى سلاح للمجابهة ولذلك تبدو أخطار الطبيعة مضخمة، وبالقدر ذاته تتضخم مشاعر عجزه وقلقه..»
لم تكن الأسرة السورية، ولا أفرادها، بمنأى عن الأخطار التي مر ذكرها قبيل انفجار الأزمة، حسب ما يروج البعض: «بأننا كنا بخير..»، ولم تكن الطبيعة مصدراً وحيداً للضغوط والتهديدات التي واجهت الناس، بل كانت جملة السياسات التي يفترض بها معالجة المشكلات، وتحصن الفرد والأسرة على السواء لمواجهة مختلف الأخطار، شكلت هذه السياسات تهديد واضحاً صريحاً أو كامناً لحياة الناس، وجعلتهم عرضة للقلق، القلق على الصحة والرزق والأمن يلازمهم على الدوام منذ الصباح وحتى المساء خارج البيت وداخله. لقد نما التعب والألم عميقاً وخلال زمن طويل في عظام الناس، وأصبحت له مفاعيله الخاصة.

أمن الهوية

تؤدي عملية إقصاء بعض الجماعات الاجتماعية إلى انعدام الإحساس بالأمن الخاص بالهوية، وغالباً ما يكون هذا نتيجة لغياب الحريات السياسية الذي يؤدي بدوره إلى انعدام أو ضعف الحياة السياسية وابتعاد الناس عن الشأن العام الذي هو في النهاية شأنهم هم. ويضعف قدرتهم على المواجهة والتكيف في عالم متسارع التغييرات، وحافل بالمفاجآت والأخطار الداخلية والخارجية.
إن الغلاء والازدحام وتلوث الهواء ومشكلات السكن والتراكم السكاني وارتفاع البطالة، وارتفاع تكاليف الزواج والمشكلات الناجمة عنها، إضافة إلى ضغوط الدراسة والتخصص وولوج الشباب إلى سوق العمل، وفقدان روابط الحماية الاجتماعية التقليدية، وحتى مشكلات عدم الاستقرار السياسي والأمني وأخطار الصراعات المحلية والإقليمية، والتي تصب في النهاية في مجرى الشأن العام إلا أنها تمثل حقيقة إلى هذا الحد أو ذاك الشؤون الخاصة للفرد سواء وعى ذلك أم لم يعِه.
إن النموذج العائلي للمجتمع تطاير وتشظّى، من خلال قلع الجذور الذي حصل في مرحلة انفجار الأزمة وما قبلها. فحين تحدث مشكلة ذات شأن في الأسرة أو تمر بفترة عصيبة، ولا تجد سنداً لها سواء من جهاز الدولة أو من المجتمع، تتولد ضغوطات وآثار نفسية متفاوتة الشدة، وتؤسس للتباعد والعلاقات المتوترة والصراعات الشخصية منها، ومع المحيط.
تتصف الأسرة بسيطرة القلق والتوجّسات عليها خشية أن يحدث مكروه لها أو لأحد أعضائها، وهنا تطغى عليها الهموم وتعجز عن الارتياح والاستمتاع بمباهج الحياة وتصبح دفاعية. وتؤدي سيطرة القلق إلى شعور حاد بالضعف أمام تحديات الحياة، ومن خصائص القلق والخوف والهواجس أنها قابلة للعدوى والانتشار من خلال النمذجة بحيث تنتقل من شخص إلى آخر.

الضغوط وآليات المواجهة

تتحدد العلاقة بين الضغوط وبقاء الإنسان من خلال آليات المجابهة والدفاع عن النفس واستخدام وسائل الحماية لمواجهة تحديات الحياة، يؤكد الباحثون حدوث تعبئة فيزيولوجية عضلية لمواجهة التهديد والخطر، المتمثلة في القتال أو الهرب، تتم التعبئة من خلال عمليات التعلم الخاص بانفعالات الخوف والغضب، فتعطي إشارة إنذار، تتسارع ضربات القلب والنفَس يزداد التوتر العضلي وتنقبض المعدة والأمعاء.. إلخ.
أدخلت الحياة المعاصرة الإنسان في حالة فريدة، من ناحية، هناك كثير من المثيرات التي تحرك جهاز التعبئة الجسمية للقتال أو الهروب، ومن ناحية أخرى، تمنع الاعتبارات الاجتماعية الإنسان من المجابهة ويطلب منه الحفاظ على هدوئه واتزانه وكبح جماح انفعالاته وسلوكاته.
وهكذا يعبأ الإنسان خلال يومه للقتال أو الهروب ولكن يمنع عليه ذلك مما يبقي حالة التعبئة دون تفريغ وهو ما يؤكد أعراض الضغوطات المعروفة على صعيد الاضطرابات الوظيفية الجسدية أو على صعيد التوترات النفسية وآثارها. وقد لا تكون الضغوطات كبيرة ولكن يكون هناك تراكم لضغوطات صغيرة مزمنة تحرك الجهاز العصبي دون أن ينتبه لها وهو ما يؤدي إلى تراكم التوتر العضلي وارتفاع السكر وإجهاد القلب.. ويجد المرء نفسه بعد حين قد أصيب بالتعب والإجهاد.
إذا تراكمت الضغوط واستمرت التعبئة الآلية للمجابهة والهروب دون تفريغ، فكل وظائفنا الجسدية تقريباً قد تتأذى، والنتيجة أمراض العصر «سكر سرطان مفاصل اكتئاب.. إلخ.

المرونة الاستيعابية

يشير بعض العلماء إلى وجود نسبة من الناس، يعيشون ظروفاً صعبة ويتعرضون للأخطار ويخرجون منها بحد معقول من الأضرار النفسية والجسدية. تمكنهم من متابعة حياتهم بشكل مقبول. أطلقت عليها تسميات مقاومة الصدمات أو المرونة الاستيعابية، أي التكيف وامتصاص الصدمة والعودة ثانية إلى الحالة الطبيعية بأقل الأضرار، وتشكل التنشئة التي توفر الحماية والحب والاعتراف والتقدير والطمأنينة أهم مرتكزات نمو المرونة الاستيعابية.
إن الأزمات تحتاج إلى حلول وبذلك تقدم فرصة للتغيير، وربما حان الوقت للانخراط في نشاط مواجه فاعل ومنجز يحقق التقدم ويؤسس للتمرس بالحياة واختباراتها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1127
آخر تعديل على الإثنين, 19 حزيران/يونيو 2023 16:17