إيغليتون وونّوس عن النقد الأدبي والتغيير
«النقد الماركسي جزء من كيان أكبر لتحليل نظريّ يهدف إلى فهم الإيديولوجيات، أيْ فهم الأفكار والقيم والمشاعر التي يعيش بها البشر حياتهم الاجتماعية في أزمان متباينة... والتي قد لا تتاح إلا في الأدب، كما أنّ فهم الأيديولوجيات يعني فهماً أعمق لكلٍّ من الماضي والحاضر على نحوٍ يُسهم في تحرُّرِنا». – هكذا كتب الباحث الماركسي الإنكليزي تيري إيغليتون في كتابه «الماركسية والنقد الأدبي».
الفن، فيما تراه الماركسية «جزءٌ من البنية الفوقية للمجتمع... إنه جزء من إيديولوجيا المجتمع، أو عنصرٌ من تلك البنية المعقَّدة من الإدراك الاجتماعي، التي تبرِّر الموقفَ الذي تسيطر فيه طبقةٌ اجتماعية على غيرها. ولذلك فإنّ فهم الأدب يعني فهم العملية الاجتماعية التي تشمله»، بحسب ما شدّد إيغليتون في المؤلّف نفسه (1976).
واعتبر الماركسي الروسي جورجي بليخانوف بأنّ العقلية الاجتماعية لعصر من العصور، والتي هي مشروطة بالعلاقات الاجتماعية للعصر «أوضح ما تتجلّى في تاريخ الأدب والفن». ومعنى ذلك أنّ الأعمال الأدبية ليست إلهاماً غامضاً، أو أعمالاً قابلة لتفسير بسيط يعتمد على سيكولوجيّة مؤلِّفيها. إنها أشكالٌ للإدراك، وطرائقُ خاصة في رؤية العالَم. وما دامت كذلك، فهي تنطوي على علاقة وثيقة بالطريقة السائدة في رؤية العالَم، أيْ بالعقلية الاجتماعية، أو إيديولوجيا العصر. وهذه الإيديولوجيا بدورها نتاجٌ لعلاقات اجتماعية ملموسة، تقوم بين البشر في زمانٍ ومكانٍ محدَّدين. إنها الطريقة التي يعيش بها البشر علاقاتهم الطبقية ويبرِّرونها ويحافظون على بقائها. يضاف إلى ذلك أنّ البشر ليسوا أحراراً في اختيار علاقاتهم الاجتماعية، بل تدفعهم إليها ضرورةٌ مادّية، ترتبط بطبيعة التطوُّر في نمط إنتاجهم الاقتصادي ومرحلته على السواء.
الماركسية و«الأكاديمية الضارّة»
يحذّرنا تيري إيغليتون من الكتب التي تتحدث عن الماركسية بطريقة يسمّيها «الأكاديمية الضارّة» حيث «سرعان ما ننظر، بإغراءٍ من هذه الكتب، إلى النقد الماركسي بوصفه منهجاً يستقر هادئاً بين المنهج الفرويدي والمنهج الأسطوري في دراسة الأدب، وعلى نحو يغدو معه النقد الماركسي منهجاً مثيراً من الناحية الأكاديمية فقط، بل يبدو وكأنه حقلٌ مُوَطَّأ يخوضُه الطلاب في هوادة».
بدلاً من ذلك يشدّد إيغليتون على أنْ «نذكّر أنفسنا بحقيقة بسيطة، مؤدّاها أنّ الماركسية نظرةٌ عِلمية، تتناول المجتمعات الإنسانية مثلما تتناول عملية تغييرها. وما يعنيه ذلك بالملموس هو أنّ النقد الماركسي لا يقصّ علينا قصةً مسلّية، بل يقصّ علينا صراعَ البشر لتحرير أنفسهم من أنواع محدَّدة من الاستغلال والقهر. وليس هناك شيءٌ أكاديميٌّ في هذا الصراع، حتى لو نسينا ذلك أو أغفلناه».
ماركس والأدب
نلاحظ بأنَّ أيّ مؤلَّفٍ لماركس يكاد لا يخلو من مفاهيم أدبية واستعارات أو اقتباسات من أدباء وإشارات للأدب. وفي الحقيقة كان ماركس الشاب أديباً، نظم شعراً غنائياً وقِسماً من مسرحية شعريّة، حتى أنّه، بحسب ما يخبرنا إيغليتون، حاول تأليف رواية فكاهيّة لم يتمّها، تأثّر فيها بشكلٍ لافت بلورنس شتيرن. كما وكتب ماركس أيضاً مخطوطاً ضخماً عن الفن والدين، بقي دون نشر، وخطّط لمجلّة في نقد المسرح، ودراسة مسهبة عن بلزاك، وبحثاً عن علم الجمال. لقد كان الفن والأدب بعض الهواء الذي يتنفّسه ماركس بوصفه مثقّفاً ألمانياً نهماً في اطّـلاعه على التراث الكلاسيكي العظيم لمجتمعه. أما معرفته بالأدب فكانت مذهلة في مداها الذي يمتد من سوفكليس إلى الرواية الإسبانية، ومن لوكريتس إلى إنتاج القصة الإنكليزية. ولقد خصّصت حلقة العمّال الألمان التي أسسها ماركس في بروكسل أمسية أسبوعية لمناقشة الفنون. وكان ماركس نفسه مشاهداً لا ينقطع عن الذهاب إلى المسرح، ومنشِداً للشعر، وقارئاً نهماً لأيّ نتاج أدبيّ يصادفه، ابتداءً من العصر الأوغسطي، إلى القصائد القصصية عن الصناعة. ولقد وصف عمله في خطابٍ أرسله إلى إنجلس بأنّ هذا العمل يشكّل «وحدةً فنّية». أما في مسألة الأسلوب فقد كان مدقِّقاً مرهف الحساسية فيما يتصل بأسلوبه أو أسلوب غيره.
ومن المعروف أنّ من مقالات ماركس الشهيرة في مرحلة من عمله في الصحافة، والذي قاده إلى الاهتمام بالاقتصاد السياسي، كان تغطية الظلم الذي تعرّض له فقراء يلتقطون بعض الأغصان الساقطة من الأشجار، والقوانين التي سنت آنذاك لمعاقبتهم على ذلك ولصالح أصحاب الأراضي. لكن بحسب إيغليتون تناول ماركس في أوائل كتاباته في الصحافة موضوع الدفاع عن حرية التعبير الفنّي. يضاف إلى ذلك، ما يمكن أن نكتشفه من أثر للمفاهيم الجمالية في المقولات الحاسمة في فكره الاقتصادي في مرحلة نضجه.
ومع ذلك كان أمام ماركس وإنجلس مهام أخرى غير صياغة نظرية جمالية كاملة، ولذلك بقيت تعليقاتهما على الفن والأدب متناثرةً وجزئية، وهي أقرب إلى اللمحات الخاطفة منها إلى المواقف النظرية المتكاملة.
النقد الماركسي ليس «علم اجتماع الأدب»
يشدد إيغليتون على أنّ النقد الماركسي لا ينحصر فيما بات يعرف في الغرب باسم «علم اجتماع الأدب»، فهذا الأخير علمٌ يهتم أساساً بما يمكن أن نسمّيه «أدوات الإنتاج الأدبي»، أي عمليات التوزيع والتبادل في مجتمع بعينه، من قبيل كيفية نشر الكتب، والتكون الاجتماعي لمؤلّفيها وقرّائها، ومستويات التعليم، والعوامل الاجتماعية التي تحدد الذوق. ويتناول علم اجتماع الأدب أيضاً النصوص الأدبية، من منظور ما تحتويه من موضوعات تهمّ المؤرِّخ الاجتماعي. ومع أن هناك بعض الأعمال الممتازة في هذا المجال، ولكنها لا تشكل سوى جانب واحد فحسب من جوانب النقد الماركسي. أي إنّ علم اجتماع الأدب بحد ذاته، ليس خاصاً بالماركسية أو النقد الأدبي، بل هو بحسب إيغليتون «نسخةٌ مهذَّبة مدجَّنة من النقد الماركسي، في الغالب، تتواءم مع الاستهلاك الغربي».
سعد الله ونوس ومسرح التفسير والتغيير
في مؤلّفه «بيانات لمسرح عربيّ جديد» كتب الفنان المسرحي السوري الكبير سعد الله ونّوس (1941–1997)، المعروف بتطبيقه المبدع للمنهج الماركسي في الأدب والمسرح: «سنبدأ بالسؤال الأول، ونعيِّنُ مَن هم حقّاً المتفرِّجون الذين نريد أن ننصب بينهم مسرحَنا. ونجيب على الفور... إننا نريد مسرحاً للجماهير، أي الطبقات الكادحة من الشعب. وبمقدار ما تبدو هذه الإجابة سهلةً ومستَهلَكة من كثر الاستعمال، فإنّ السياق الذي نضعُها فيه لا يوفِّرُ لنا لا السهولة، ولا الامتيازات المجّانية للشِّعارات اللفظية. ذلك أنّ إجاباتِنا لا قيمة لها ولا تكتملُ ما لَم نَعْبُر منها إلى دراسةٍ معمَّقة لأوضاع هذه الطبقات وظروفها المعيشية ومشكلاتها، فتتسنَّى لنا بعدئذٍ معرفةٌ عِلميّةٌ أساسُها المعايشةُ الفِعلية والتحليلُ الصائب، لا الكليشهات والصور الجاهزة».
ويتابع ونوس بأنّ هذه المعرفة المخالِفة للصيغ الجاهزة للمسرح هي معرفةٌ «ذات طابع مركَّب، لأنها تفاعلٌ يوميّ مع الجمهور على مختلف المستويات السياسية والاجتماعية والفكرية والفنية. تفاعلٌ يأخذ ويعطي. يجرّب ويصحّح. منطلقة من الأرض الحقيقية للبشر».
يصرّح ونّوس بأنّ هدف المسرح بالنسبة له يجمع بين الجماليّ والتأثير الاجتماعي التقدّمي: «إنّ غايته أنْ يخلق مع هؤلاء المتفرجين تعبيرات مسرحية تشتمل، بالإضافة إلى المتعة، على تنمية الوعي، وتعميق إدراك الناس لمصيرهم المشترك، ولمشكلاتهم وقَدَرهم الاجتماعي. هنا نعود إلى الأصول. إننا نرفض القوالب الجاهزة لأن المهم ليس القوالب. ونحن لا نصنع مسرحاً لكي نثبت فقط أننا لاحقون بركب المدنية، وأننا نعرف المسرح كسوانا... وإذا كانت تلك غايتنا الوحيدة فإنها لا تستحق كل هذا العناء... إننا نصنع مسرحاً لأننا نريد تغيير وتطوير عقلية، وتعميق وعي جماعي بالمصير التاريخي لنا جميعاً».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1108