سقط السِّتارُ عن السِّتارِ... وانتهت المسرحية
احتراماً وتقديراً، لن نسكت قليلاً على إدراكنا لوقائع كانت في الماضي عصيّةً بعض الشيء على رؤيتنا المشوَّشة. فنحن كجيلٍ انتقاليٍّ بأعماره كافّة، خَبِرَ تجاربَ الحياة المريرة في عيشه داخل الأطراف الهشَّة ببنيتها؛ والتابعة بسلطاتها لمركزٍ احتكاريٍّ ألقى بقسوة علينا بالجرعة الأولى المكثَّفة من تبعيّات انفجارِ أعمقِ أزمةٍ استعصتْ عليهم في تاريخهم.
شدة درجة الأزمة الرأسمالية الاحتكارية دفعت لهجرة قسم كبير منا إلى دول المركز، وبالتالي نشأت ظاهرة تاريخية تعبّر عن أنّ دولَ الأطراف بعناصر مجتمعاتها من طبقة البورجوازية، والفئة الوسطى بأشكالها كافّةً، مع البروليتاريا والقوى الثورية، تواجدوا كمجتمعٍ كاملٍ في الوقت ذاتِه داخل دول (الأطراف، والمركز) للنظام الرأسمالي. وهذا بالضرورة جعل حقائقَ طبيعة المنظومة الرأسمالية تتكشَّفُ بتسارع، بسبب دخول طبقة البروليتاريا بزخم كبير من دول الأطراف على خطّ هجرة العقول السابق. وعلى أثر ذلك حصلنا على أجوبةٍ لأغلب المسائل عبر تفاعل العُمّال، وممارسة المثقَّفين لــــثقافة الاشتباك، وليس عبر وجودهم في صالونات الثقافة، كما عبَّر «المثقَّف المشتبك» باسل الأعرج.
مفصل زمني ونقطة تحوّل في مسار الإمبريالية
يمكننا هنا الاقتضاب بالتعبير عن مسار تطور الإمبريالية خلال مئة عام تقريباً، والتوسع خارجاً بالنقاشات حوله:
- انتهت الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) وأصبح واقعاً على الساحة العالمية وقائع عدة منها: (وعد بلفور)، فرنسا، وبريطانيا تستعد لخوض حروب في مناطق عدة لم تحتلها من قبل سوى بسلاحها الأول (البضائع). وبالفعل احتلوا خلال فترة قصيرة قسماً كبير من الكوكب، لكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى روسيا؛ كون البلاشفة بقيادة فلاديمير لينين، استلموا السلطة ورفرف العلم الأحمر لأكثر من 71 يوماً، وبعدها أكثر من 7 عقود، بالمقارنة مع تجربة كومونة باريس أو الثورة الفرنسية الرابعة في عام 1871.
- انتهت الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) وأصبح وعد بلفور واقعاً مؤلماً بعدما وقعت نكبة فلسطين. ووضع علم الكيان الصهيوني تحت اسم «إسرائيل»، وفي الوقت ذاته ظهر الدولار إلى العلن بوصفه عملة عالمية للتداول ليست مهمته السيطرة على الحيز الاقتصادي العالمي فحسب، إنما الثقافي أيضاً، وبالتالي الاقتراب من تحقيق رغبتهم بجعل الكوكب عبارة عن قرية صغيرة مستطيلة الشكل بحجم ورقة الدولار. لكن ذلك لم يتحقق وربما أهم الأسباب التي سدت الأفق في وجه طموحهم يمكن أن نقدمها عند العودة إلى ما جاء من مشاركة «الإرادة الشعبية» في «المؤتمر الشيوعي» الذي دعت إليه «المنظمة الشيوعية» الألمانية في برلين، بين 23 و25 أيلول 2022: «لا يمكن فهم إمبريالية اليوم دون فهم دور الدولار، هل تعلمون أن ستالين رفض توقيع اتفاقية بريتن وودز 1944؟ فقد كان واضحاً بالنسبة له أن موضوع العملة العالمية ممثلة بالدولار هي وسيلة لنهب العالم. إن موضوع دور الدولار يرتبط بعمق بآليات الاستعمار الحديث، الديون تمر عبر الدولار، مقص الأسعار يمر عبر الدولار، الدولار يربح من كل عملية اقتصادية تمر عبره. انفكاك الدولار عن الارتباط بالذهب والإنتاج حوّله إلى أداة نهب استثنائية».
سَيَّدَةُ الأُرْض، أُمُّ البِدَايَات، أُمَّ النِّهَايَات
صحيح أننا ما نزال نعيش مرحلة انتقالية اشتدت فيها حالة ضبابية تعبر عن تكثف زمننا الحاضر بين معاناتنا الحالية للتخلص جذرياً من مصادر الماضي المسببة لآلامنا، وبين كفاحنا للدخول في مستقبل يؤمّن حياة كريمة هانئة لأطفالنا. لكن على الرغم من شدة هذه العقدة الزمنية، تحولت المعرفة إلى كشّاف ضوئي فتح أفق التغيير الجذري الشامل ضمن عملية تفاعل ديالكتيكية لعناصر المجتمع البشري كافّةً، وربما أكثر الأشكال المعبرة عن الاضطراب المزمن لرأس المال ضمن هذه المرحلة هو تحوُّل الصُّورة المخفيَّة لثقافة الرأسمالية عندما كانت في ذروة سطوتها، إلى صورة مرئيَّة. فمثلاً منطقة أوروبا الغربية شهدت استقراراً لم يسبق له مثيل في تاريخ الاستعمار الحديث، ضمن فترة الستّينات، السبعينات، والثمانينات، لتدخل من بعدها إلى عَقد العسل (1998–2008) بعدما تفكَّك الاتحاد السوفييتي، ومحاولات الحراك الشعبي العالمي للصعود من أدنى درجاته، وفي الوقت ذاته وصول الاستعمار الحديث إلى أقصى درجاته. عند تلك اللحظة بالذات تكثفت الرؤية حول كيفية استخدام قوى المال العالمية لوسائل سلطتها الثقافية في تثبيت قوالبَ تُصوُّرُ منطقة أوروبا الغربية على أنها منطقة فاضلة لا يمسّها أيّ سوء في شتى مجالات الحياة، وبالأخص الجانب الديمقراطي منها. انتهى عقد العسل الأوروبي بتشنّج داخلي عبّرت عنه دولٌ كثيرة مثل إيطاليا، اليونان، البرتغال، ومعظم دول أوروبا الشرقية، وتشظّي أراضي كوسوفو، أما في خارج منطقتهم فقد اشتركوا مع حليفهم المضارب عليهم في تدمير العراق، وأفغانستان بحجة الدفاع عن أنفسهم من الإرهاب، وعند هذا الحد من تلك المرحلة دخلت الإمبريالية مفصلاً تاريخياً جديداً نهائياً (2008–2018)، شديد القسوة على البشرية، وقد يصحّ القول بعد (التصرف الموضوعي) عما جاء في رواية رجال في الشمس (1963) من الأدب الفلسطيني الثوري لـــــغسان كنفاني الذي عبّر من خلال تلك الرواية بصدق عميق عن نكبة الشعب الفلسطيني في عام 1948؛ «لقد احتاج الوعي الجمعي لشعوب دول الأطراف إلى عشر سنوات كبيرة جائعة كي يصدقوا أنهم فقدوا شجراتهم وبيوتهم وشبابهم وبلدانهم كلها». وكأنّ شعوب دول الأطراف بأكملها كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين. صَارَتْ تُسَمَّى فلسْطِين.
عصر الرأسمالية الاحتكارية الضيِّق دفعَ إلى تناسب بعبارة النفّري «كلّما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة». تناسب بمفردات اخترقت الصدى واتسعت بالمدى بعدما عبرت أزقّة المدن، وحقول الريف، لتهجم على قصور قلّة قليلة طفيلية نهشت الكوكبَ ونكبته؛ لأجل هدفها الوحيد الضيّق (أقصى درجات الربح). وما زالت أركان صالوناتهم تهتز من جراء توسع موجات صوتية لفنان ضرير يدعى الشيخ إمام ربط المعاني بصوته عندما غنى:
عمال وفلاحين وطلبه... دقت ساعتنا وابتدينا... نسلك طريق ما لهش راجع... والنصر قرب من عنينا.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1107